إذا كان علينا أن نعدّ عشرين اسماً بارزاً ممّن ساهموا في كتابة تاريخ الجاز في الولايات المتّحدة خلال القرن الماضي، فإن على هذه القائمة أن تضمّ اسم عازف الساكسفون والملحّن واين شورتر.
اليوم الخميس، غادر شورتر عالمنا عن تسعة وثمانين عاماً في لوس أنجليس، ليكون أحد آخر الأسماء الكبيرة التي ترحل بعد أن صنعت عالماً واسعاً لموسيقى الجاز طيلة عقود، إلى جانب نجوم مثل مايلز دايفس (1926 ــ 1991) وجون كولتران (1926 ــ 1967) وأورنت كولمان (1930 ــ 2015)، وبالتأكيد لويس أرمسترونغ.
بعد اهتمامه صغيراً بالفنون البصرية، سيكتشف الفتى موسيقى الجاز عبر الراديو، وهو اكتشافٌ سيقوده إلى تتبُّع فنّاني الجاز في مدينته نيوارك، بولاية نيوجرسي، وحضور حفلاته رفقة أخيه ألان، ولو كان ذلك على حساب تغيُّبه عن حصصه الدراسية. مع أخيه سيبدأ العزف أوّلاً على الكلارينيت، لينتقل منه إلى الساكسفون، هذه الآلة التي سيتحوّل مع الوقت إلى واحد من أفضل العازفين عليها في الولايات المتّحدة.
قدّم شورتر العديد من الحفلات منتصف الخمسينيات إلى جانب فرقٍ معروفة وأُخرى صاعدة، كما سينمّي مواهبه خلال هذه الفترة بالتدرّب لدى عددٍ من الأسماء المعروفة في الجاز، مثل هوراس سيلفر، ومن ثمّ جون كولتران، الذي تعرّف إليه وعزف إلى جانبه خلال زيارة للأخير إلى نيوارك.
أمّا دخوله الرسمي عالَم الموسيقى كفنّان مستقلّ، فسيكون في عام 1959، عندما انضمّ إلى فرقة "جاز ماسنجيرز" التي شكّلها عازف الإيقاعات آرت بلاكي، والتي كانت من أبرز الفرق التي لعبت الجاز خلال فترة الستّينيات في الولايات المتّحدة. ولم يكتفِ شورتر بأداء موسيقى بلاكي في الفرقة، بل راح يقترح أعمالاً من تأليفه، وهو سيتيح له المزيد من الحضور بين أقرانه من الموسيقيين والمشتغلين في فرق الجاز بأميركا.
مع مغادرة جون كولتران لـ"خُماسيّ مايلز دايفس" منتصف الستّينيات، سيقوم الأخير باستدعاء شورتر ليحلّ محلّ كولتران كعازف ساكسفون، وهي فرصةٌ ستتيح له إظهار مهارته، وهو الذي لطالما قُورن بكولتران كعازف على آلة الساكسفون تينور. مقارنةٌ سيتجاوزها بعد سنوات، خلال عمله في هذه الفرقة، حينما سيقترح أسلوباً فريداً على آلة قريبة: الساكسفون سوبرانو.
بعد هاتين التجربتين اللتين تشكّلت من خلالهما حِرفتُه كموسيقي، واللتين ساهم من خلالهما أيضاً في رسْم ملامح واحدةٍ من أكثر مراحل الجاز كثافةً وأهمّيةً، سيؤسّس شورتر، مع عازف البيانو النمساوي جو تسافينول، فرقة "ويذر ريبورت"، عام 1970، ويبقى نشطاً فيها حتى منتصف الثمانينيات، وهي فترةٌ ستشهد على رغبته المتزايد في التجريب والذهاب إلى مساحات موسيقية جديدة. رغبةٌ شهدت عليها حفلاته مع الفرقة وعدّة ألبومات وضعها خلال هذه الفترة وجمع فيها بين الجاز وموسيقات لاتينية، أو أخذ فيها الجاز إلى عالم التأليف الأوركسترالي.
خلال مسيرته الطويلة التي تزيد على نصف قرن، وضع واين شورتر أكثر من عشرين ألبوماً منفرداً أو كعازف أساسي في فرقة، إلى جانب مساهمته في أكثر من سبعين ألبوماً مع فرق وفنانين آخرين، من أبرزهم مايلز دايفس، وهيربي هانوك (مواليد 1940)، ولي مورغان (1938 ــ 1972)، كما ترك العديد من المقطوعات الفردية التي تُعَدّ اليوم من تُحف الجاز الفردية، أو ما يُعرف بـ"الستاندرز"، من بينها "نفرتيتي"، و"النيل الأسود"، و"خريف"، و"آثارُ أقدام"، و"زهرة برّية".