هواجس الخَطّاط.. حروف عربية في برمجيّات الحواسيب

26 فبراير 2022
حكيم غزالي/ المغرب
+ الخط -

تعوّدت الأجيال الجديدة على التعامل مع الخطّ العربي من خلال الحروف المرقمنة، ضمن إيمانٍ بأن التشكيلات الكلاسيكيّة المقعّدة لهذا الفنّ، أو لصناعة الخِطاطة تحديداً، لا تتجاوز كونها جزءاً من الهالة القدسيّة للنصّ الدّيني والنّصوص المأثورة، ومن غير الجائز إحلال ما هو مقدّس في فضاء التّواصل الدّنيويّ والعمليّ.

فكأنّنا بالتّراكمات الاستعماليّة قد شكّلت لدى النّاس ذخيرة مفاهيميّة معيّنة، ذات طبيعة تصنيفيّة، أصبحت تحدّد لديهم أُفقاً انتظاريّاً لمحتوى النصّ انطلاقاً من شكله الفنّي. وهو ما يؤكّد نوعاً من التّلازم الدّلاليّ بين الخطّ الثلثي والبسملة، على سبيل المثال، وبين الخطوط الفارسيّة ذات المدّات الانسيابيّة الرّقيقة وبين النّصوص الشعريّة ذات المناخات الرّوحيّة والصّوفيّة اللطيفة. في المقابل، من السّماجة أن نخطّ كلمة "مَحكمة" في الوثائق القضائيّة أو على واجهة قصر العدالة بالخط الحرّ الذي يخترق التناسبات الهندسيّة والذي تُكتب به عناوين قصص الأطفال أو عناوين الأفلام الهزليّة، عوضاً عن الكوفي أو الثلثي الجلي، ذوَي الحروف المتشابكة، في الحالات العاديّة.


أسئلةُ الرقمَنة

ومن ثمَّ يُطرح السّؤال حول ما إذا يمكن اعتبار الرّقمنة امتداداً شرعيّاً لسيرورة التطوّر والابتكار الأسلوبيّ في تاريخ الخطّ العربي؟ هل هي بمثابة نشأة جديدة تعود بتاريخيّة الإبداع الخطّي على أعقابها؟ ثمّ هل من شأن مناطق القوّة في هذه التاريخيّة أن تعيد فتح آفاق الابتكار في مدوّنة فنّ الخطّ، بعد أن ظلّت لقرون (أو على الأقلّ منذ نشأة الخطّ الرّقعي بتركيا) موسومة بطابع الإطلاقيّة، لا تلحقها الإضافات؟

قلق في العلاقة بين المضمون الروحي للنص وخطابه التشكيلي

هل سيكون مصير الابتكار الرّقميّ لتطبيقات خطيّة جديدة مثل مصير الخطوط الفانتازيّة الحرّة التي ازدهرت في مصر خلال النّصف الثّاني من القرن الماضي، كما في إسهامات المصري خضير البورسعيدي، حيث اعتُبرت على هامش التّأسيس الأكاديمي للمدوّنة الخطّية، وقد تبرّأ منها عديد الحُذّاق، خشية أن تتحوّل صناعة الخطّ إلى لعبة ممتعة وسهلة في متناول الشّباب، تعمي أبصارهم عن الخطوط الأكاديميّة وتسحب من أهل الصّناعة مكانتهم؟

وفي هذا الأفق هل يمكن أن نتخيّل كتابة بسملة بهذا الخطّ "الحرّ"، الذي يستمدّ جماليّته من معاكسة تناسبات الحروف في مدوّنة ابن مُقلة وخلق إيقاع جديد يقوم على الإثارة واللعب المشاكس بمادّة الحروف ومكوّناتها، ومن ذلك ترقيق المفخّم وتفخيم المرقّق من روؤس الحروف ومذيّلاتها؟ وبالتّوازي، هل يُخشى من الرّقمنة تدمير الاستراتيجيّات الأصليّة للخطاب الكاليغرافي الذي يعيش بالتّلازم مع سياق ثقافيّ شرقيّ بعينه، داخل لعبة فصل ووصل؟


بين البصَر والبصيرة

هناك استقلاليّة تارةً، وتبعيّة تارة أخرى، ما بين الصّورة والتّصوّر، الشّكل ومشكليّته. إنّنا بإزاء اهتزاز في بنية العلاقة ما بين المضمون الروحيّ للخطاب النصّي وبين العبارة الجماليّة للخطاب التشكيلي الخطّي. ومن ثمّة، يُخشى فقدان التّنظيم الاستراتيجي للخطابين، وهو الجهاز الموصل الذي يربط بين عناصر السجلّ الثّقافي - التراثي.

ولكنْ لنتدبّر الأمر على نحو آخر؛ أليس من شأن هذا التّنظيم الاستراتيجي أن يعيد الاعتبار إلى تلك المعادلة التلازميّة ما بين الظّاهر والباطن، الحامل والمحمول، الماثل والممثول... تلك التي كانت قد تجاوزتها ما بعدُ الحداثات الثقافيّة الغربيّة عند تجاوزها للميتافيزيقا التقليديّة نفسها، وخاصّة ما يتعلّق بالفصل القديم بين الشّكل وما بعد الشّكل، بين ما نُدركه بالبصر وما ننفذ إليه بالبصيرة؟ بل هل يدفع بنا الأمر لنكون في أمسّ الحاجة إلى مثل هذا السّياق الثّقافي التلازمي لتدبير وحدة الجملة الخطيّة شكلاً ومفهوماً؟


إعادةُ التمثُّل كضرورة

وهكذا، وأمام تكوّن أفقٍ انتظاريٍّ، بفعل التّراكم التاريخي لخبرات تذوّق أعمال فنّ الخطّ داخل المدرك العام، بحيث يناسب نوعُ الخطّ مضمونَه (التّقريري، الرّوحي، البلاغي، القدسي، الأدبي، اليومي...)، لا مندوحة عن تمثّل أجناس هذه السّياقات المختلفة قبل إنجاز أيّ مشروع للرّقمنة. وإذا كانت الرّقمنة تعتمد على المعالجة الشكليّة والهندسيّة للحروف، فكيف يتسنّى لها أن "تختزل" القيَم التعبيريّة والرّوحيّة في تراكيب الحروف وطوابعها الأسلوبيّة (الوحدة، الكثافة، التّشابك...)؟ فهي بعدُ، وفي عديد النّماذج، متّهَمة بتغييب القيَم التشكيليّة والجماليّة مثل الإيقاع والحركة البصريّة.

إزاء مثل هذه المعضلات، هل حريٌّ بنا أن نعيّن حدود الرّقمنة، بحيث لا تشمل غير التراكيب البسيطة ذات التنضيد الهندسيّ متجاور العناصر في خطّ النّسخ، وربّما خطّ الرّقعة، ذي المضامين اليوميّة للمتون النّصيّة العِلميّة والإعلاميّة؟ ومن ثمّة، ألا نعيد للخطّاط الأكاديمي منزلته بوصفه الفنّان القادر على تصريف القيَمي داخل اللعبة التشكيليّة للخطوط؟

بات الناس يتوقّعون محتوى النصّ انطلاقاً من شكله الفنّي

مثل هذه الهواجس تمثّل محرّضات إشكاليّة باتّجاه إعادة تمثّل ما لهذا الفنّ العربي الإسلاميّ من ديناميّة خلّاقة قابلة للاستثمار في هذا الزّمان، لا سيّما وأن مشاريع التّصنيع (الغرافيكي، التواصلي، الإعلامي...) أصبحت تُطالبنا، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، بإعادة تصنيع الصّناعة، أي إعادة تسنين السّنن الجماليّة والثقافيّة في ظلّ استراتيجيّات الانتقاء والنّمذجة، تلك التي قد تلامس الخطوط الحمراء للتّنميط. وهي مطالبةٌ غير مأمونة من مزالق التّشويه والاستلاب... خصوصاً عندما يقع إعداد برمجيّات الرّقمنة الخطيّة في غير المعامل العربيّة (الهنديّة والألمانيّة والأميركيّة...) بين أيادي مهندسين ومصمّمين لم تلمس يوماً القصَبة والمِداد!


* أكاديمي وفنّان تشكيلي تونسي

المساهمون