هموم شعرية: مع أسامة إسبر

27 يوليو 2023
أسامة إسبر، 2023 (العربي الجديد)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع شاعر عربي في علاقته مع قارئه وخصوصيات صنعته، ولا سيما واقع نشر الشعر العربي المعاصر ومقروئيته. "يُربط الأدب العربي في الغرب بالأحداث ويتعامل معه كتعليق على الحدث أو وثيقة أنثروبولوجية"، يقول الشاعر السوري لـ"العربي الجديد".
 


 

■ من هو قارئك؟ وهل تعتبر نفسك شاعراً مقروءاً؟

هناك قارئان تجمعني بهما صلةٌ قويّةٌ لا غنى عنها: الأول هو الذي يسكنني حين أؤلف وأراجع ما أكتبه، ويظل متجهّماً وعابساً وغير راضٍ طوال الوقت، يطالبني بأن أعيد النظر وأحذف هذا النعت أو تلك الجملة الزائدة، أو أن أتخلّص من الترهل اللغوي، أو أن أحوّل الخاتمة إلى مقدّمة، أو أغيّر موقع مقطع معيّن في النص. إنّه القارئ الناقد الذي يسكن في لحظة الكتابة الشعرية، فأنت حين تكتب تفعل ذلك كي تُرضي هذا القارئ المترفّع الذي لا يعجبه أي شيء. وهناك القارئ الثاني، سليلُ هذا القارئ الأول، وهو موجودٌ في ظلامِ الحشود، وإذا حدث وأمسك بكتابك وفتحتْ له نصوصك عينيه على ما لم يألفه وأضاءت ظلماتٍ في أعماقه، تكون قد نَجحْتَ. وإذا لم يعثر هذا القارئ في شعرك على ما يقدح هذا الشرر، فهذا يعني أنّك لم تصل شعرياً. ليسَ لديّ أرقامٌ حول كتبي وتوزيعها من الناشر، كي أعرف إن كنت مقروءاً أم لا، ولا يشغلني هذا الموضوع، فالجماهيرية، أو عدد القراء الكبير، ليس مقياساً وخاصّة حين يتعلّق الأمر بالشعر.


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، هل لديك ناشر وهل هو الناشر الذي تحلم به لشعرك؟

إنّ مأساة النشر العربي هي ضعف التقاليد المؤسّساتية. إذا ما قدّمت ديواناً شعرياً للطباعة لدى ناشر، فإنّك لن تتلقّى رسالة أو اتصالاً من محرّر خبير في الكتابة الشعرية يقول لك إنَّ كتابك يستحق النشر، أو أن ثمّة أقساماً فيه بحاجة إلى إعادة نظر، أو أنّه مرفوض أو رائع، إلخ. بالنسبة للشعر، لا يوجد ناشر، بهذا المعنى. ما أطمح إليه هو الناشر الذي يحتفي بالشعر الحقيقي، والذي يقرأ قبل أن ينشر، وينشر ما يكتشف فيه إبداعاً، والذي يقدّم أرقاماً دقيقة حول التوزيع. السوق لا يخدم ناشر الشعر كما يقال، ولكن الشعر يُنشر في العالم العربي على نطاق واسع بصرف النظر عن الأرقام. حين ننطلق من معايير، ونتعامل مؤسّساتياً، ونؤصّل للخبرة التحريرية، نكون قد أزحنا عقبة من طريقنا.


■ كيف تنظر إلى النشر في المجلات والجرائد والمواقع؟

إنَّ القصيدة الإبداعية تتوهج في أي مكان تُنشر فيه أو تنطفئ، في الجريدة أو المجلة أو الموقع أو على صفحات الإعلام الاجتماعي، غير أن الصفحات الثقافية، مثلها مثل التلفزيون، لا تستطيع أن تقدِّم نتاجاً مهماً يومياً أو أسبوعياً، كما قال أوكتافيو باث، وإلّا لأتت بيضاء. إنَّ عصر الإعلام هو عصر إنتاج بالجملة حوّل القصيدة إلى سلعة، إلى كتلة يجب أن تملأ فراغاً، بالتالي في النهر اللغوي الجارف علينا أن ننشر الجواهر إن استطعنا وأن نخوض ونبحث عن الكنوز العابرة قبل أن يجرفها السيل. 

كي نروّج أديباً عربياً نحتاج دوماً إلى حرب أو حدث ضخم 
 

■ هل تنشر شعرك على وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف ترى تأثير ذلك في كتابتك أو كتابة زملائك ممن ينشرون شعرهم على وسائل التواصل؟

أنشر شعري على صفحتي على فيسبوك وأحياناً على إنستغرام، وأفعل هذا لأن التقدّم منحني فسحة جديدة، فأنا صرتُ أمتلك منبري الخاص. أستطيع القول إن للنشر في الإعلام الاجتماعي تأثيراً إيجابياً في تجربتي، فقد وسّع من دائرة قرّائي والذين ولّدوا لديّ حافزاً للكتابة المتواصلة، هذا الحافز نشّطني ككاتبٍ، ينتظره دوماً قرّاء جُدد مهما كان عددهم قليلاً أو كبيراً. هناك في الإعلام الاجتماعي من يذكر أرقاماً ضخمة، لكنني راض بالأرقام القليلة، إن عشرة قراء حقيقيين أهم من مليون. ولا بدَّ من الإشارة إلى أن غياب المجلات الأدبية الفاعلة والطليعية وانحسار دورها جعل عملية النشر في الإعلام الاجتماعي منفذاً جديداً لإيصال القصيدة إلى قارئ تتواصل معه مباشرة. وهنا تكمن أهمية الانفتاح على تطورات العصر. بالنسبة للتأثير، لا أعرف، ففي النهاية لديك دائماً فرصة كي تعيد النظر بكل ما نشرته حين تقرّر أن تختار منه كي تجمعه في كتاب، وتتخلّص من الباقي.


■ من هو قارئ الشعر العربي اليوم في رأيك؟

قارئ الشعر العربي اليوم هو القارئ الذي يمتلك ذائقة حرّة منفلتة من إسار الموروث. قصيدة النثر تحتاج إلى تعاطف متضمن في فعل القراءة بسبب كونها منفية من المدارس والجامعات. ورغم أننا نسمع أحياناً أنَّ هناك أطروحات دكتوراه كُتبت عن شعراء شبان أو كبار في السن، إلّا أن هذه حوادث فردية ولا تعكس الجوّ في الجامعة. جامعاتنا لا تهتم باحتضان الشعراء. إن الجامعات العربية التي تدعو الشعراء كي يلتقوا بالطلبة ويتبادلوا معهم النقاش ويقرأوا نتاجهم الشعري قليلة جداً.


■ هل توافق أن الشعر المترجم من اللغات الأخرى هو اليوم أكثر مقروئية من الشعر العربي، ولماذا؟

لا أظن ذلك، لأنَّ الشعر المترجم لم يفرض سحره عربياً نظراً لندرة الترجمات الشعرية العظيمة. ربما الرواية المترجمة مقروءة أكثر من الرواية المؤلفة وشعراء العربية المهمون موجودون بقوة في ساحة القراءة. لا أظن أن عدد قرّاء أي شاعر أجنبي مترجم إلى العربية أعلى من قراء أدونيس ومحمود درويش ونزار قباني أو غيرهم من الشعراء العرب المهمين. أمّا في الغرب فهناك مشكلة تواجه أدبنا العربي، فهو دائماً يُربط بالأحداث ويتم التعامل معه كتعليق على الحدث أو وثيقة أنثروبولوجية، ولا ينظر إليه في كثير من الأحيان كنص فني رائد في مجال جنسه الأدبي. تحتاج دوماً إلى حرب أو إلى حدث ضخم كي تروج أديباً عربياً وتنقله إلى لغات أخرى. مثلاً في الولايات المتحدة يتم الاهتمام بالروايات العربية بحثياً، لدراسة الأنظمة التسلطية والقمعية وموقف الكتّاب منها، ولا تدرس من ناحية إضافتها للأدب العالمي. ولكن الأدب العظيم يشقّ طريقه مخترقاً المناسبات، وهذا يحتاج إلى وقت. يجب أن ننتبه إلى أن الشعراء والروائيين الغربيين ليسوا أهم من العرب، لكن هناك عقدة الانبهار بالآخر المتفوّق ما زالت تفرض علينا سحر الأسماء الأجنبية رغم رداءتها أحياناً.

تحتاج قصيدة النثر إلى تعاطف بسبب نفيها من المدارس والجامعات

■ ما هي مزايا الشعر العربي الأساسية وما هي نقاط ضعفه؟

هذا سؤال ضخم من الصعب أن أجيبك عنه، ولست مطلعاً بما يكفي كي أجيب عنه بحكم وجودي في أميركا وصعوبة الوصول إلى المؤلّفات الشعرية كلّها والدراسة النقدية لها، وهذا السؤال يجب أن يُطرح على النقد الأدبي العربي. إن الشعر العربي خريطة واسعة تشمل عدة بلدان وعدة أجيال، وأهمُّ ما يميز الشعر هو درجة اختلاف شاعر عن آخر، وإنجازه الشعري الخاص بالمعنى الفني. كل ما بوسعي قوله إن هناك بعض الشعراء العرب الذين لهم وزن عالمي ويجب ألّا نظن أن الشعر المكتوب باللغات الأجنبية، وأخصُّ هنا الإنكليزية لأنني مطلع، إلى حدِّ ما، على الشعر المكتوب فيها، هو أفضل من الشعر العربي. أمّا مزايا ونقاط ضعف الشعراء فمسائل يجب على النقد الأدبي أن يواكبها، ويجب ألّا يفوتنا القول هنا إنَّ النقد الأدبي العربي مقصّر عن اللحاق بركب الشعر. لا يوجد لدينا نقد أدبي يستضيء بسياق نقدي شامل، لأن الثقافة النقدية مُحاربة ومهمّشة في العالم العربي، وخاصة في الجامعات، ولا يمكن أن يزدهر النقد الأدبي إلّا في إطار ثقافة نقدية في الحقول المعرفية كلها.


■ شاعر عربي تعتقد أن من المهم استعادته الآن؟

أتمنى أن يُستعاد الآن الشاعر السوري المنسي أورخان ميسر (1914 - 1965)، الذي ولد في إسطنبول في 1914، وتوفي في مدينة حلب، وذلك لسبب أساسي وهو أنّه رسّخ تجربة اختلاف في الشعر السوري، بتأثير من الحركة السريالية، وكتب قصيدة النثر في وقت كانت تهيمن فيه الأساليب التقليدية في الكتابة الشعرية، وله كتاب معروف صدر بعنوان "سريال"، ثم أعيدت طباعته وصدر بمقدّمة لأدونيس عن "مطبعة اتحاد الكتاب العرب" في دمشق في 1979. هذه المجموعة الشعرية تحتوي على مقدّمة يتحدث فيها الشاعر عن السريالية والصور التي يبدعها العقل الباطن. إن استعادة أورخان ميسر قد تكون مناسبة للاحتفاء باللون المختلف وبالتأثّر في الكتابة الشعرية، فهو متأثّر بفرويد وأندريه بروتون. في تجربته نرى أن الشعرية تسلك مساراً مختلفاً، وأنّه كشاعر يخرج على اللغة الشعرية السائدة، ويقدّم كتابة غير مألوفة. 


■ ما الذي تتمناه للشعر العربي؟

أتمنى للشعر العربي أن يظل محافظاً على موقعه كديوان للعرب، وأن يظل عصياً على اللغة النثرية العادية التي تحوّله إلى سرد ملحق بالرواية. كان الشعر ديوان العرب وسيبقى، ولا يمكن أن يرقى النثر إلى مصاف اللغة الشعرية التي يجب على الشعراء شحنها دوماً بطاقة جديدة.



بطاقة
شاعر ومترجم ومصوّر فوتوغرافي سوري من مواليد 1963، يقيم في الولايات المتّحدة. ترجم قرابة أربعين كتاباً؛ آخرها "أيام فان غوخ الأخيرة" (2023) لـ آليسون ريتشمان. نشر في الشعر: "على طرقي البحرية" (2020) و"على ضفّة نهر الأشياء" (2021) و"قال لي جسدي" (2022/ الصورة)، وفي القصّة القصيرة: "السيرة الدينارية" (1996)، و"مقهى المنتحرين" (2003). أقام معرضه الفوتوغرافي الأوّل "طقوس العبور" نهاية العام الماضي.

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون