هكذا نَصنعُ الحاضر

10 أكتوبر 2023
عمل فني لـ علي صلاح بلداوي
+ الخط -

أتذكَّر أين قرأتُ عبارةَ بيتاكوس، أحد حكماء الإغريق السبعة، قبلَ أيّام، إذ يقول: "خيرُ الأمورِ أن نُحسِن صُنع الحاضر"، ففلسفته تقوم على العناية بـ الحاضر وإجادة صُنعه، لا التفاتًا إلى الماضي الذي فات، ولا تفكيرًا بالمستقبل الذي لا يُمسَكُ به وما من سلطانٍ عليه.
 
هكذا وجدتُني أُردِّدُ هذهِ العِبارة أمامَ شاشة الحاسوب وأنا أتنقَّلُ بين الوكالات الإعلاميّة، مُتَتَبِّعًا أخبار الطُوفان الذي لم يُفاجِئ الصَّهاينة فقط، بل كان مُفاجِئًا لكلِّ من استيقظ ذلك الصباح على مَشاهد، يظنّها المرء، في البدء، ضرباً من الخيال، لكنَّ المَظلّات كانت حقيقيّة، والدبّابات التي تحترق والجِدار الذي يُهدَم ويُزال، والرُّعب الذي يَعيشه المُحتلّ لم تكن مسلسلًا أو مُجرَّدَ أحلام، كانت حقيقةً واحتجتُ بعض الوقت لاستيعابها.

مقاومة الصهاينة في فلسطين تشبه مقاومتنا لـ"داعش" في العراق

أُمازجُ مشاهد الحَرب المُباغِتة هذهِ، بالأيام التي عشتُها وأهلي، مُحاصَرًا من قِبل عصابات "داعش"، مُهدَّدًا بالقصفِ والقَتل بشتّى الوسائل، ولا خيارات سوى اثنين: المقاومة أو الخضوع. ولم نجد أنفسنا سوى أنَّنا، في بلدةٍ صغيرةٍ، نُقاوم جيوشًا بربريَّةً لا عدَّ لها ولا لسلاحها الأميركيّ. هكذا تكاد تُصبح المقاربة الفلسطينية - العراقيّة، مع خصوصيَّة كلٍّ منهما، مُتطابقةً على مستوى التصادُم، ومحاولات استباحة الأرض وتغيير التاريخ وانتزاع الإنسان من هويَّته، ومن ثمَّ مَحوه كما لو أنَّه لم يكُن.

لكن والحال كما يفرضه الواقع المُعاش، ليس من خيارٍ عند الفرد المَسلوب سوى المقاومة، ولا سبيل إلّا إلى نطح الرّأس بالرّأس، حتى ولو كان في ذلك تهشيم الجمجمة، فالمواجهة مع المحتلّ الإرهابيّ - على اختلاف الهيئة والتوجُّه - لا تستحضر "الأخلاق" التي لا يدَّعيها البعض إلّا عند المُواجهة، ولا تفرض المبادئ الإنسانيّة التافهة التي يتبنّاها النائمون في غرفٍ فارهة (هي غرف الذل بالمناسبة)، ولا تُحتِّمُ التَّهاونَ أو التَّنازل الذي يَخضع له بعضهم من باب تقليل الخسارة وتفادي المظالم. 

المواجهة لا يفهمها إلّا من يعيشها قولًا وفعلًا، فالمُواجِه هو ابن الآن الذي يصنع حاضره، وقد أَخْتَلفُ مع بيتاكوس وأقول إنَّه ابن مستقبله أيضًا، وصانعٌ له في ذات الحال، فمن يَصنعُ اللحظة الحاضرة قادرٌ على صناعة غدهِ بطُرقٍ لن يتصوَّرها أحد.

"نعرفُ أنَّ القتالَ مريرٌ"، هكذا قال مظفَّر النوّاب ذاتَ يوم، أستعيدهُ الآن وأشعرُ بأنَّنا نصنع زمننا رغمَ مرارةَ القِتال، ورغم تهاوُن كثير ممّن يُحسبون على القضيَّة، ومِمَّن يَدَّعون نُصرة الأحرار والدفاع عن الأرض العربيّة، ولَكَم بدا لنا بيت العنكبوت واهنًا، بل تافهًا ولا قيمة له أمام النازلين من السماء والطالعين من الأرض.

يكفي الآن أن أقول لبيتاكوس إنَّ اللحظة الراهنة لنا، وإنَّنا رغم الشحيح من المواقف الحقيقيّة، بأكفٍّ من حديد، نعجن للزمن عجينته التي نريدها.


* شاعر وفنان من العراق

موقف
التحديثات الحية
المساهمون