بملامح أوروبّية شمالية، وفمٍ مائل مستعدٍّ لإطلاق سيلٍ من مفردات تتنقل برشاقةٍ، بين تشبيهات جارحة ومَجازات تحمل تاريخاً لا بدَّ وأن تتسلَّح به، حين تُجالِس الرجل، هكذا رأيتُ فيصل حوراني أوّل مرّة.
هل كان عليّ أن أقولَ كلاماً حكيماً في وجود موسوعة معرفية لا تتكرّر كثيراً؟ أم أترك رشقات الكلام الخفيف، لتتشكَّل كعلامات استفهام أمام الرَّجل الفارع بذكائه الحادّ، وفطنته اليقِظة.
لا أتحدّثُ هُنا عن إنتاج فيصل حوراني الفِكري والأدبي، لكنّي أحاول استدراجَ الصُّور الإنسانية، التي رافقت جلسات النقاش، التي تبدأ عادةً بإحالة حدثٍ يَوميّ عابر إلى سياق مضى، واستدعاء شواهد تاريخية بحمُولات لغوية ومفارقات ثقافية، يُتقن فيصل حوراني بمهارَة توظيفَها، لتُصبحَ وكأنّها حدثَت بالأمس.
ترك لنا وللأجيال القادمة شهادةً عن دروب المنفى الفلسطيني
ما كان يلفت انتباهي دائماً، تلك القدرة على مُجاراة الحداثة، بالذات في الكِتابة الشّعرية (هذه المفردة المُلتبِسة حتّى على نفسها). كانت بالنسبة لفيصل حوراني، اقتراحاً حاضراً لا يمكن تجاهُله، وأظنّ أنّ الرجل كان قارئاً مُجيداً بعينين حداثِيّتين دون عدسات.
رغم كلّ تلك الأنَفة التي امتازَ بها، إلّا أنّ مساحات الصَّفاء واجتراح المفارقات المُضحِكة، تذكّركَ دائماً أنّ روح فلّاح فلسطيني قديم، علقت بثياب الرّجل، رغم سَنواتِ المَنفى والأيديولوجيات التي تزاحمت في ذهن الولد اللّاجئ، والجِراح الغائرة في روحه، حيث لم يجد دواءً منها سوى التهكّم حتّى وإن كان على نفسه، بمقاييس محدّدة يختارُها ويختار من يسمعُها بعناية جَرّاح.
إن كان ثمّة ما يمكن أن يعوّضَ - فلسطينياً - دخول فيصل حوراني في سجلِّ الغائبين، ومن مسؤولية وطنية بحتة، فهو التمسّك الجادّ بإرثه الفكري والأدبي في سجلّ الحاضرين.
لقد ترك لنا فيصل حوراني سرديَّة فلسطينيَّة، يمكن الاتّكاء عليها والاحتماء بها، في مواجهة البلدوزرات، التي تحاولُ الآنَ طمسَ الوجود المادّي بعد أن قدّمت دولة البلدوزرات للعالَم، شهادةً تاريخ مزوّرة، بالاسم والعنوان.
ترك فيصل حوراني، لنا وللأجيال القادمة، شهادةً عن دروب المنفى الفلسطيني، كي لا نضلّ الطريق حين نعود إلى البيت.
* شاعر من فلسطين