منذ ذاك اليوم المشؤوم
حين خطف الموتُ من كلوريس حبيبَها القاسي طِرسيس،
تملّكها حزنٌ فظيع.
كئيبة، متردّدة الخُطى، شعرُها مُرسل متطاير في الريح،
بدت وكأنّها محكومة بمشيئَتيْن،
أو كأنّ في داخلها قلبين؛
وفيما نار الحبّ الوهّاجة تحجب شعاع البصيرة
بدت كلوريس مهيضة الجناح،
ثمّ شبكت شعرها الأشعث متفجّعة وهامَت بفكرها، دائمة الفطنة رغم شديد اضطرابها، مناجية نفسها...
"دعي فكرةً تصعد إلى السماء
لو كانت هذه النفس صالحةً
وقد سلبت منّي راحتي.
لكنْ إذا كان محكومٌ على حبيبي بالذهاب إلى الجحيم
لأنّه نبذني،
فأنا أسيرة اللعنة،
وسينجو حبيبي.
ولكنْ مهلكِ، لا يا أفكاري،
يا حسرةً أحملُها،
حُكم على حبيبي بالذهاب إلى الجحيم الأشدّ ظُلمة
هذا صحيح، وما أنصفه عقاباً
يليق بقدري القاسي.
أجل، أجل، أنحدرُ سريعاً
لأُنقذَ حبيبي من رمال بلوتو الحارقة
إله الجحيم المُلتهب.
ولكن ماذا أرى؟
إنّ روحاً هائماً ينظر بغضب إلى وجهي أيضاً
ثمّ يفرّ منّي.
آه يا طِرسيس ما أشدّ قسوتك!".
- هي: أجبني، أنا هنا، انظر إليّ!
(ذاك الذي تظنّه طِرسيس يدير ظهره. ثمّ يلتفت)
- هي: ألا تراني؟
- العبّار: مَن يكون طِرسيس؟
- هي: آهِ من حبيبي القاسي، فهو لا يريد التعرّف إليّ. لا، ليس قاسياً، لا يمكن لحبيبي أن يكون كذلك.
- العبّار: لستُ طِرسيس...
- هي: أعرف أنّه ههنا. دعني أمرّ. فأنتَ تمنعني من إنقاذه. عليّ إنقاذه.
- العبّار: ممّن؟
- هي: من آلهة الجَحيم.
- العبّار: الجحيم وَهْم. ليس هنالك جحيم. هناك الدرب، وأنتِ وأنا.
- هي: أعرف أنه هنالك. وأعرفُ مَن اختطفه.
- العبّار: مَن اختطفه؟
- هي: الشيطان اختطف طِرسيس.
- العبّار: لستُ الشيطان. لستُ طِرسيس.
- هي: من تكون إذاً؟
- العبّار: عبّار.
- هي: جئتَ في أوانك. دعني أعبرُ إلى حيث عليَّ الذهاب. عليّ أن أنقذه من براثن بلوتو. عليَّ أن أخلّصه من جوف النار.
- العبّار: النار وهمٌ، وبلوتو مات مُذ تجسّد الشيطان إنساناً. نحن حروقٌ تتعطّش للغرق. انظري إلى البحر، يجب عبوره لتدركي أنّ الجحيم فكرة بائدة...
- هي: نعم، لكنّ طِرسيس حبيبي ليس فكرة. لم يمت. إنّه ذاكرةُ خاصرتيَّ، هواء رئتيَّ، الهواء الذي أتنشّقه. ترك بصمته هنا، وهناك. انظر إلى لدغتِه...
تحسر ياقتها وتُبين عنقها.
- العبّار: لا أرى شيئاً.
- هي: كيف ذلك أيها البائس؟
- العبّار: الجحيم لا يترك أيّ بصمة، عليكِ أن تعرفي أنّ الأموات وحدهم يشهدون للجحيم.
- هي: لم يمُت، أقول لكَ إنّه حيّ، أعرف ذلك. إنه بصمةُ روحي رغم قسوته. لا أستطيع أن أسير من دونه أَلا تَفهم؟ لا أحد يسير من دون ظلّه. ساعدني... أعرف أنّه في الجانب الآخر، دعني أمرّ. لا تمنعني من موافاته... ابتعدْ عن طريقي.
يعترض العبّار سبيلها بكلّ جسده:
- العبّار: ورائي البحر وسفنٌ غارقة وخفر سواحل. لن تجدي شيئاً ما عدا الصحراء التي تفرّق البشر.
- هي: أَولى بي أن أموت عطشاً في صحرائك من أن أبقى دقيقةً واحدة بعيدة عنه. ابتعد عن طريقي.
يُلمَح خفر سواحل يقترب منهما... تناديه:
- هي: أنت، هناك، قل له بأن يدعني أمرّ.
- الخفير: من تكون؟
- العبّار: مجنونة.
- هي: أنا مجنونة؟ وهل يجب أن أوصم بالجنون لتكون لديّ الجرأة على اللحاق بمَن أحبّ. حبيبي ظمئِي، وحده يفهمني. حتى لو رحل، سيعود. إلّا إذا كنت أنت تحتجزه، ما دام الجحيم غير موجود والشياطين بيننا.
- الخفير: يا سيدتي، لا نحتجز هنا أحداً. نحن هنا أحرار.
- هي: هنا؟... ماذا تقصد بـ"هنا"؟
- الخفير: بعيداً عن ديارك.
- هي: ودياري أين هي؟
- الخفير: ليست هنا...
- هي: إذا كان الناس هنا أحراراً دعني أمرّ إذاً، يجب أن أوافيه، دعني أحبّه. فهو ينتظرني...
- الخفير (يقاطعها): نعم، لكنّك تذهبين في الاتّجاه الخَطأ.
هي (تقول منساقة مع اندفاعتها...): من دوني سيغدو خِرقةً، جُثّة، سيغدو ظلَّ نفسه، أنا عزيمتُه، نصفه الآخر. عليّ أن أنقذه منّا، من الظمأ. عليَّ أن أروي غليلي بشيء ما، ولو بظلّه... دعني أمرّ...
تحاول أن تشقّ طريقها. لكنّ العبّار يواصل اعتراض سبيلها فيما الخفير يمسكها من ذراعها.
- العبّار: لم يعد لدينا الحقّ بأن ندع الأجسام الموصلة تمرّ...
- هي: الأجسام الموصلة؟ لم أفهم...
- الخفير: الأجسام الناقلة للحبّ، للمنفى، للظمأ، لملاذٍ ما. كلّ ذلك لم يعد مشروعاً بعد اليوم.
- هي: لستُ بحاجة لملاذ لأنّ لديّ طِرسيس، هو وحده من جئت أبحث عنه، لا شكّ أنّه هنا.
- الخفير: إذا كان هنا فسوف نجده. ماذا يدعى؟
- هي: طِرسيس، طِرسيس، حبيبي وقاتلي. طِرسيس هو كلّي، هو نَفَسي، هو خلاصي...
حاملاً مكبّراً للصوت، ينادي الخفير: طرسيس، طِرسيس. هل لديكم طِرسيس بين الغرقى؟
يجيبه صدى (صوت ثالث):
- الصدى: قلت طِر... طِر... طِر ماذا؟
- هي: لم أقل طِر، "طِر"* هي بلادي. هي مرفئي ومنطلق قرطاج الرائع وحضارات كثيرة أُخرى. "طِر" مدينتي.. طِرسيس حبيبي. أيّام كانت قرطاج**، لم نكن لا أنتَ ولا صداك ولا أنا موجودين. لم يكن هناك خفَر سواحل ولا دُول. لم يكن هناك أيّة حدود تشير إلى أنّه بين هنا وهناك جدرانٌ علينا هدمُها بقلوبٍ عارية. كنّا نسرح كالريح، كالزبد، كمثلي أنا على جسد طِرسيس، غريقة ولكن حرّة في اختيار منفاي، لا تكذب عليّ. أطلق سراح حبيبي. جسدُه ضريحي، لا تقتله. ليس قبلي، ليس بدلاً منّي. أريدُ أن أكون وحدي من يملك الحقّ عليه، الحقّ في الحياة وفي الموت. أنّى كان، أعرف أنّه حيّ وأنّه يواصل حبَّه لي. أعرف ذلك بوضوحٍ، وضوح الشياطين التي تسكنُنا. أعدْهُ إليَّ، ميتاً أو حيّاً. كاملاً أو أشلاء أو جثّة إذا اقتضى الأمر، ولكن أنقذني من فقدانه.
الصدى يرجّع مناجاتها:
- طِرسيس! طِرسيس! إذا كان من طِرسيس في مخيّم للاجئين أو للضيوف فليعلن عن نفسه. إذا رأى أحدٌ طِرسيس عند الحدود فليصرّح عنه. هل يستجيب أحد لاسم طِرسيس في هذه الناحية؟
- هي (رأسها متّجهٌ باتّجاه الصدى): ليس هذا ممكناً، هنا في رجع كلماتك أخالني سمعتُه، لا يمكن أن أكون مجنونة. أستطيع التعرّف إلى صوته حتى لو بي صَممٌ. إنّ نبرةَ صوتِه لا تشبه إلّاه. طِرسيس أعرف أنّك هنا وأنّك تسمعني. لا تدعِ الصدى يحملُك على الهرب مني.
- الصدى: لا وجود لاسم مشابه لذلك الذي تبحثين عنه... ما من طِرسيس في سجلّاتنا ولا حتّى بطُرق مختلفة لكتابته، مع تاء أو ياء بعد الطاء أو التاء...
ترتمي عند قدمي الخفير متشبّتة بذراعه:
- هي: أقول لك إنني أحمل في أحشائي أثر بصمته.
يمسكها العبّار لينهض بها:
- العبّار: هل سمعتِهم؟ إنّهم يراقبون عن كثب الموتى والأحياء، ويسجّلون كلّ شيء، حتى متحجّرات الكائنات الحيّة. ما من أثر لطرسيس هذا... ولا في أيّ مكان.
- هي: لا يحقّ لكم ذلك، جسدي أرضه، لا يزال لدينا الحبّ لنمارسه والحقد لنبدّده، الأجساد وُجدت لذلك. لا يمكن لطِرسيس أن يختفي، ليس بهذه الطريقة.
- العبّار: هل سمعت ما قاله الصدى والخفير؟ هنا لا أحد يختفي... لا... أحد...
هي (تقاطعه): أعرف أن طِرسيس يقبع في الصدى، فيك، فيه، فيّ. وأنّه يختبئ في كلِّ واحدٍ منّا عشيقٌ مهجور، طفل، وجبان. ها قد رحل، لا أعرف إلى أين. آهٍ منك يا طِرسيس الفتّاك، أي موهبة حُجِبَت عنّي فكُتِبَ عليّ أن أُحرَمَ من جسدك قبل الأوان. منذ رحيلك، وأنا أقلبُ الوقتَ لكي أجدَ لاشتياقي مكاناً لفنائه، عُدْ فأنا حيّة، عُدْ فأنا لا أريد أن أموت من دونك.
ترتمي على ركبتيها، محتضنة رأسها بيديها منتحبة. يميل الرجلان نحوها ويتحدّثان في الوقت نفسه قائلَيْن لها:
- ومع ذلك، هل أنت واثقة من وجود طِرسيس هذا؟
ترفع رأسها نحوهما وعيناها مغيمتان.
- هي: رحمةً، لا تُهينا غرقي، ربّما أخلط بينه وبين ما يتجرّعُني، لكنّي لم أنتشل جسديْنا من العدم. طِرسيس طِرسيس، إذا كنت تسمعني أجبني. قل لهم إنني ميتة منفرجة الساقين وعيناك على جسدي، وإنّني رحبة مثل أفقٍ مُشتعلٍ، قل لهم، أعرف أنّك هنا، ها إنّي أعانقك وأشدّ عليك.
تعانق نفسها، ويصرّ الرجلان قائلَيْن:
- ولكن هل أنت واثقة حقّاً من أنّه وُجد؟
- هي: وأنتما؟
ترفع رأسها نحوهما:
- هي من جديد: "وأنتما؟ هل أنتما واثقان من أنّكما أحببتما يوماً؟".
* إشارة إلى مدينة صور الذي يشتق اسمها من "طر"، ويعني في اللهجات الساميّة الحجر أو الصوّان.
** يشير مؤرّخون قدماء إلى أن ملكة صور، واسمها عليسة (أليسار)، قد أنشأت مدينة قرطاج بعد لجوئها إليها.
(ترجمة عن الفرنسية: ماري طوق. لحّن العمل وقدّمه للأوبرا الموسيقار اللبناني زاد ملتقى حيث عُرض بالألمانية في Deutsche Oper Berlin ودور أُخرى في ألمانيا)
بطاقة:
شاعرة وروائية لبنانية تكتب بالفرنسية، من مواليد 1975 في بيروت. بدأت إصداراتها عام 2001 بمجموعة شعرية حملت عنوان "انعكاسات القمر"، أتبعتها بثلاث مجموعات أُخرى وست روايات، من بينها: "خزانة الظلال" (2006) و"تحت العريشة" (2009) التي نقلتها إلى العربية ماري طوق. صدر لها العام الماضي كتاب حول انفجار مرفأ بيروت بعنوان "انفجارات". كما أسّست "نادي القلم اللبناني" عام 2012.