يتيح المعرض الذي يقيمه غاليري "أوبنتو" في القاهرة حالياً، تحت عنوان "عين المقتني"، مشاهدة أعمال لفنان شبه منسي في تاريخ الفن المصري الحديث، هو السكندري نور اليوسف (1928-2000).
كان اليوسف يعمل قبطاناً، وأثناء رحلاته المختلفة التقى بخوان ميرو ومارسيل دو شامب وفرانسيس بيكون، وتذكر بعض المصادر أن العلاقة مع الأخير توطدت وتحولت إلى صداقة ثم إلى تأثر بكيفية ترتيب بيكون للمساحات اللونية، حيث ظهرت ملامح هذا التأثر في بورتريهات الفنان. لا يعرف الكثير عن اليوسف شخصياً، وباستثناء مجموعة نادرة من لوحاته تعود للمقتني فتوح القابع وهو أيضاً من الإسكندرية، فإن مصير الكثير من أعماله يبقى مجهولاً، ومرد ذلك قد يكون لعزلته وعزوفه عن التردد على أوساط المثقفين أو الاختلاط بها، وقلما عرف عنه حضور فعاليات فنية.
رغم ذلك فقد كان اليوسف يتردد على اثنين في هذا الوسط هما يوسف إدريس وأنيس منصور. كما أنه لم يبع أعماله، بل احتفظ بها عدا ما أهداه إلى فنانين أجانب وبعض الكتّاب. هكذا اقتصرت مفردات حيات اليوسف على الرسم والسفر في البحر، وانقسم عالمه إلى نصفين؛ السفينة والأتيليه، ولم يقم إلا ثلاثة معارض داخل مصر وأكثر منها خارجها، وعاش وحيداً ولم يتزوج، عادّاً المرسم مثل محراب يعيش فيه ويرسم. ويروى أن لوحة طُلبت منه في عهد عبد الناصر، عن الوحدة العربية، لكنه رفض لكي لا يضطره ذلك إلى الحضور في أوساط ثقافية أو سياسية عاش مؤثراً النأي عنها.
عاش منعزلاً وكان يؤثر رسم وجوه الناس على الاقتراب منهم
نجد في أعمال اليوسف هذه العزلة أو الوحدة بكل قوتها، إنها حاضرة كما لو كانت عنصراً أساسياً، بل إنها المنظور الذي رأى منه الفنان لوحته خاصة في البورتريه الذاتي الذي يظهر فيه مثل راهب صامت تحيط به الوحشة والذي رسمه عام 1970. والمفارقة أن هذا الإنسان المنعزل رسم الكثير من البورتريهات، نساء وفتيات وأطفالاً في غرف مخملية، ووجوهاً من الطبقة الشعبية فلاحين وبائعات، سيدة تحاول أن تقرأ المستقبل بورق اللعب، وأخرى تعزف البيانو، امرأة حبلى بجلابية، امرأة بمكياج ثقيل... ربما كان يؤثر أن يرسم الوجوه على أن يقترب من أصحابها.
هناك لوحة يعنونها "الشيخ سيد"، وفيها رجل بملابس النوم التقليدية جالس على طرف الفراش، مصاب بالأرق ربما، الغرفة رمادية وكل شيء فيها يدور في فلك هذا اللون حتى الشيخ سيد نفسه، بشحوبه ونحوله. ثمة عمل بعنوان "غريبة" يمثل سيدة عجوز وجهها حددته التجاعيد ترتدي العباءة السوداء على رأسها، وتنظر باستسلام ويأس، الألوان بين الأسود والبني تبرز السؤال في وجه العجوز. في لوحة أخرى بعنوان "ذكريات" تجلس امرأة صعيدية في حالة حداد، ومثلها عمل بعنوان "امرأة من وجه قبلي"، أما من الشخصيات المعروفة فرسم الفنان بورتريهات لسيف وانلي وصلاح جاهين وإدغار ديغا.
لدى اليوسف أعمال تظهر فيها الحياة الصامتة؛ مثل لوحته "في المطبخ" حيث بعض الأواني المعلّقة على الحائط بألوان حارة وحيوية غريبة عن أجوائه المألوفة، وعمل "ثلاث ركوات قهوة"، وهناك لوحة الكولاج الوحيدة "أغنية الوداع"، بألوان قوية ونارية ومزاج مختلف تماماً عن كل ما نلمسه لديه في لوحاته الأخرى.
كذلك رسم اليوسف أحياء وجوانب من عمارة الإسكندرية، في لوحته "كبائن العجمي" عام 1967 آثر رسم الشاليهات في الشتاء غارقة في الرمادي والأسود والأزرق الخافت، عوضاً عن أن يرسم حياة البحر الصيفية. كل الشبابيك في اللوحة مغلقة والستائر السوداء معقودة من الوسط، أنتينات التلفزيون على كل سطح، والبحر لا يظهر أبداً لكن يمكننا أن نحس بوجوده، في الحقيقة إننا قلما نرى البحر في أي عمل له، ما عدا عمل واحد بعنوان "حورية البحر" وفيه امرأة عارية طافية على مياه تركوازية.