من مفارقات التاريخ الثقافي للعلاقات الفارسية- العثمانية أن الصراع السياسي العنيف بين الدولتين العثمانية والصفوية كان ذا طابع سياسي بحت، مع استخدام الدين غطاء له، بدليل أن الدولة العثمانية بعد انتصارها في معركة جالديران (1514) لم تحدّ من انتشار الثقافة الفارسية في المناطق العثمانية الجديدة التي فُتحت، بل يمكن القول أن الانتشار العثماني نحو الغرب كان يفتح مجالات جديدة لوصول الثقافة الفارسية وبروز تأثيرها مع مرور الوقت حتى نهاية الحكم العثماني في البلقان في بين 1912 و1913.
هذا الجانب أثار انتباه الباحثين البلقانيين في الدراسات الشرقية منذ بداياتها الحديثة في مطلع القرن العشرين، وبالتحديد مع الجيل المؤسّس لأول فرع للاستشراق في جامعة بلغراد عام 1926 مع رئيسه فهيم بايراكتاروفيتش، ثم مع الجيل الثاني المؤسّس لقسم الاستشراق في جامعة سراييفو و"المعهد الشرقي" في سراييفو عام 1950، والجيل الثالث المؤسّس لقسم الاستشراق في جامعة بريشتينا عام 1973. ويمكن القول إنه لدينا الآن الجيل الرابع الذي يمثله عبد الله رجبي (1981) أستاذ اللغة الفارسية وأدبها في القسم الأخير، الذي أصبح يمثل الاستشراق الألباني بعد الصربي (مدرسة بلغراد) والبوسنوي (مدرسة سراييفو)، وذلك بمناسبة صدور كتابه الجديد "نعيم فراشري والأدب الفارسي" عن معهد الدراسات الشرقية (بريشتينا 2020، 256 صفحة).
في هذا الكتاب ينطلق المؤلف في الفصل الأول (الثقافة الفارسية) من "المجال الجغرافي للثقافة الفارسية" منذ القدم الذي كان يتمركز في آسيا الجنوبية الغربية ضمن الصراع بين الإمبراطوريات، ويمتدّ إلى مصر والأناضول وصولاً إلى البلقان، حيث برز هناك بشكل خاص تأثير الديانات الفارسية القديمة (الزرادشتية والمانوية والمزدكية) التي تسرّبت بعض عناصرها لاحقاً إلى موجة التصوّف الإسلامي عبر "مدرسة خراسان" التي كانت تختلف تماماً عن "مدرسة بغداد". ويربط هذا الامتداد اللاحق للثقافة الفارسية باتجاه الغرب بالتجاور القديم التركي - الفارسي وتأثير "مدرسة خراسان" الصوفية على الطرق الجديدة وخاصة البكتاشية مع مؤسّسها الحاج بكتاش الذي كان له تأثيره الكبير في بدايات الدولة العثمانية من خلال الجيش الجديد / يني تشري (الانكشاري).
حرّض الألبان على تمييز أنفسهم عن الأتراك واستقلال ألبانيا
وإلى هذه الطريقة الصوفية، التي تحوّلت إلى طائفة دينية لاحقاً، ينتمي الشاعر الألباني نعيم فراشري (1846-1900) الذي يعتبر في مفارقة ملفتة من أهم الشعراء الألبان قبل الاستقلال (1912) الذي عبّر عن تأثر واضح بالثقافة الفارسية في شعره الديني (البكتاشي) والقومي الذي حرّض فيه الألبان على تمييز أنفسهم عن الأتراك والعمل لاستقلال ألبانيا عن الدولة العثمانية، مع أنه كان من كبار الموظفين في هذه الدولة قبل وفاته (رئيس المجلس الأعلى للتعليم).
ولد نعيم في قرية فراشري بجنوب ألبانيا الحالية ذات الغالبية البكتاشية، في أسرة معروفة في التاريخ الألباني حيث كان أخوه الأول عبدل فراشري (1839-1892) نائباً في البرلمان العثماني الأول (1876-1878) وأحد زعماء الحركة القومية الألبانية التي دخلت في صدام مسلح مع السلطة العثمانية خلال 1878-1881، بينما كان أخوه الآخر سامي فراشري (1850-1904) معروفاً أكثر على مستوى الدولة العثمانية بمؤلفاته الرائدة في الأدب والمعاجم والموسوعات ("قاموس الأعلام" الخ) باسم شمس الدين سامي. تعلّم نعيم في قريته أولاً العربية والتركية والفارسية ثم تابع تعلّم هذه اللغات وغيرها (اليونانية والإيطالية والفرنسية) في مدرسة زوسيما المعروفة في ولاية يانينا، التي كانت تشمل جنوب ألبانيا وشمال غرب اليونان حالياً. وفي هذا السياق أوضح المؤلف في الفصل الأول مكانة الثقافة الفارسية لدى الأتراك قديماً وحديثاً، حيث كان ينظر إلى الفارسية باعتبارها لغة الشعر ولذلك كان هناك حرص على تعلّم الفارسية ومحاولة الكتابة فيها على نمط الشعراء الفرس المعروفين (فردوسي وحافظ وسعدي وغيرهم) الذي كانوا المثل الأعلى في هذا المجال.
ومن هنا انتقل رجبي في الفصل الثالث "نعيم فراشري والثقافة الفارسية" إلى توضيح الخلفية التي أدّت إلى بروز نعيم فراشري كـ "شاعر النهضة القومية" ودور المؤثرات الفارسية في ذلك. فقد كان من الطبيعي للشاب نعيم، الذي تميّز بموهبته الشعرية بين إخوته، ضمن التقاليد الثقافية السائدة أن يتعلم الفارسية ويقرأ لكبار الشعراء الفرس قبل أن يبادر إلى إبداع الشعر بالفارسية لإثبات نفسه وانجاز مؤلفات أخرى تدلّ على سعة معرفته باللغة والثقافة الفارسية.
استلهم من الشاهنامه عناصر تشكيل الهوية القومية الألبانية
في هذا المجال بدأ نعيم خلال دراسته في المدرسة الثانوية بإعداد مختارات من الشعر الفارسي بعنوان "كلمات مختارة" نشرها في حوالي مئتي صفحة بإسطنبول، ولكن لم يتم العثور على أية نسخة. كما قام نعيم لاحقاً بإعداد مختارات من ديوان "غلستان" للشاعر سعدي الشيرازي بعنوان "منتخبات من غلستان"، ولكنها نشرت عام 1903 بعد وفاته. أما في ما يتعلق بالمؤلفات في اللغة الفارسية فهناك عملان رائدان له. أما الأول فهو "قواعد الفارسية – ترتيب جديد" الذي نشر في إسطنبول عام 1871.
في هذا الكتاب أراد نعيم أن يقدّم أسلوباً جديداً لتعلّم وتعليم الفارسية بناء على تجربته التي تضم تعلم عدة لغات شرقية وأوروبية. فقد كان الأسلوب السائد في تعلّم اللغة الفارسية والعربية هو التركيز على قراءة وفهم النص فقط دون الاهتمام بتعليم وتفعيل الحديث في تلك اللغة. ومن هنا، كما يقول رجبي، كان نعيم أول مؤلف فارسي أو غير فارسي يبادر إلى وضع كتاب لتعلم الفارسية بالاستناد إلى المناهج الأوربية الحديثة في تعلّم اللغات. ومن هنا فقد قسّم نعيم كتابه إلى قسمين: الأول (65 صفحة) يتضمّن قواعد اللغة والثاني (83 صفحة) يتضمن تمرينات للمحادثة مع معجم فارسي- عثماني. وقد فتح نعيم الباب بهذا المؤلف الرائد لأنه في العام التالي (1872) قام كاتب فارسي (ميرزا حبيب أصفهاني) بطبع كتاب آخر لقواعد اللغة الفارسية حسب هذا المنهج الجديد.
أما الكتاب الآخر فهو ديوان "تخيلات" الذي نشره نعيم في 1884، والذي أعيد نشره لاحقا عدة مرات. وعلى نمط كبار الشعراء الفرس تضمّن هذا الديوان 24 قصيدة مثنوية تضمّ أكثر من 500 بيت. وعلى الرغم من شهرة هذا الديوان إلا أن رجبي قام بتحليل هذه القصائد في ضوء مقارنتها بقصائد كبار الشعراء فوجد تأثراً واضحاً بالشاعر جلال الدين الرومي حتى أنه أوجد تسعة مقاطع فيها تكاد تكون ترجمة لما هو موجود عند الرومي.
ولكن رجبي يشير إلى التأثير الأهم للشاعر فردوسي صاحب ملحمة "الشاهنامه" وحافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي على تكوّن الروح الجديدة لـ "شاعر النهضة القومية الألبانية". فنعيم البكتاشي، الذي سنتناوله لاحقاً، كان له دوره المهم في تحريض الألبان على الوعي بهويتهم القومية الألبانية وعلى تمييز أنفسهم عن الأتراك وتحرّرهم من حكمهم. وحسب رجبي فقد استلهم نعيم من "الشاهنامه" الخصائص التي تشكّل الهوية القومية وتحافظ عليها (اللغة والتاريخ والأسطورة)، بينما استلهم من حافظ الشيرازي المكوّن المميز لروحه (حب الإنسان كإنسان بغضّ النظر عن لونه ولغته ودينه) على حين أنه استلهم من الرومي شاعريته والحب الصوفي.
والمفارقة هنا أن نعيم ولد في أسرة ممتدة (آل فراشري) كان لها دورها في الطريقة البكتاشية، التي تحوّلت مع نعيم وغيره إلى حركة معارضة تقوم بنشر الكتب الألبانية والسلاح لدعم حركة المقاومة ضد الحكم العثماني. وفي سنوات طفولته كان نعيم يحضر في التكية البكتاشية أماسي الرثاء العاشورية التي كانت تُلقى فيها مقاطع من ملحمة الشاعر التركي فضولي البغدادي "حديقة السعداء"، التي ترجمها إلى الألبانية قريبه طالب فراشري. ولكن نعيم بروحه القومية الجديدة أراد أن يكون للألبان ملحمتهم الخاصة عن كربلاء وهو ما نشره أخيراً في 1892 بعنوان "كربلاء". وفي هذه الملحمة الأولى من نوعها في الأدب الألباني (حوالي 12 ألف بيت) مزج نعيم بين الإرث البكتاشي والروح القومية، حيث أرادها أن تفيد في الأماسي العاشورية في تحريض الألبان على الكفاح في سبيل وطنهم ولذلك أنهاها بمطالبتهم:
أن يقاتلوا في سبيل ألبانيا
كما قاتل المختار في سبيل الحسين.
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن نعيم فراشري، الذي لا يزال حاضراً في الكتب المدرسية بأشعاره وفي شوارع ألبانيا بالتماثيل التي أقيمت له، حظي باهتمام خاص في الدراسات الإيرانية الحديثة سواء في عهد الملكية أو في عهد الجمهورية. ففي 1953 صدر في طهران كتاب عبد الكريم غولشاني "الثقافة الايرانية في بلاد الأتراك – الأشعار الفارسية لنعيم فراشري"، بينما أقيمت في 2017 في طهران ندوة دولية عن نعيم فراشري شارك بها باحثون فرس وألبان ونشرت أوراقها في الفارسية والألبانية العام الماضي.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري