نزهة مع جورج طرابيشي في ذكراه

16 مارس 2022
جورج طرابيشي في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

بإصدارين في عام 2008 ("المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"، و"هرطقات 2: العلمانية كإشكالية إسلامية")، أغلق المفكّر السوري جورج طرابيشي (1939 - 2016) قائمة مؤلّفاته. وفي ما عدا بضع مشاركات في ندوات متفرّقة، فقد اختار أن يلوذ بالصمت - رغم التقلّبات التي أخذت تشهدها المنطقة العربية - حتى رحيله في مثل هذا اليوم من ستّ سنوات.

كان هناك أمل معلَّق بأن يَصدُر لطرابيشي كتابٌ لربّما تركه في أحد أدراجه وسبقته المنيّة قبل نشره، أو أن يجمع أحد مقرّبيه ما تناثر من أوراقه فيجد فيها قرّاؤه خلاصات أو مواقف وتعليقات عمّا يحدث كما دأب في سنوات نشاطه بين ستّينيات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي. لكنْ لم يكن من ذلك شيءٌ؛ بقيَ الصمتُ مخيّماً على أحد أكثر عقول ثقافتنا جَهْوَرية وسِجالية. ومن هنا يأخذ هذا الصمتُ بُعداً مُلغزاً.

أتساءل كيف يمكن ملء فراغ هذا الصمت: أيّ كلام قرّر جورج طرابيشي ألّا يقوله علانية؟ ألّا يجعل منه جزءاً من خطابه؟ من المؤكّد أن ذلك العقل الفوّار كان يحلّل كلّ شيء حوله، يفكّك المقولات ويلتقط الضمنيّ، لكنّ صاحبه قرّر ألّا يزيد عمّا قال. قرارٌ خطير، فما لم يُقَل يكون أحياناً أكثر قسوة ممّا قيل. ماذا لو ذهب ذلك المثقّف - الذي أَجلس الروائيين والمفكّرين لعقود متتالية على أريكة التحليل النفسي - إلى جلسة عياديّة!

أتخيّله - خلال سنوات الصمت تلك - يتمشّى في حديقة باريسية غارقاً في أفكاره. تصله بالتأكيد أخبار الثورات العربية هنا وهناك، وما ترافق معها من تمظهُرٍ لغضب الشعوب، ودخول فوضويّ إلى العالم الديمقراطي، وصَوْلاتِ التشدّد الديني المسلّح في وطنه الأم، أو في العراق وليبيا. أتت أشياء كثيرة دفعة واحدة، لعلّها قد أربكت التفكير وعَقَدت اللسان، ولم يكن ذلك ما تعوّدناه من صاحب "مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام".

سكتَ في سنواته الأخيرة وقبل ذلك أوقف مشروعه النقدي

على الأرجح أن الأفكار تداعت في ذهنه، لكنّه قرّر ألّا تتحوّل إلى منطوق فاجع. شخصياً، أعتقد بأن جورج طرابيشي كان يرى الأمة العربية تسير على حافّة "انتحار جماعي"، وقد وردت هذه العبارة في مدوّنته. ولعلّه قال بينه وبين نفسه ما فائدة توضيح الأمر بعد فوات الأوان، وكأن الأمر يتعلّق بإراحة الأضحية وهي على المذبح.

ليست نزعة الإحجام هذه بجديدة على جورج طرابيشي، فبين المشروعين اللذين أخذا أكبر قسط من انشغاله الفكري، أي مرحلة تطبيق التحليل النفسي على الأدب العربي (من 1972 إلى 1984)، ومرحلة "نقد نقد العقل العربي" (من 1996 إلى 2008)، قدّم المفكّر السوري خلال قوس زمنيّ قصير (النصف الأول من التسعينيات) بعض المؤلّفات الفكرية كانت أقرب إلى خلاصاتٍ شاملة أتت بعد تحقيق وتدقيق في خطاب الأنتلجنسيا العربية المعاصرة (حسن حنفي، جلال أمين، منير شفيق، محمد عمارة...).

أبرز هذه الأعمال؛ "المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي" (1991) و"مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة" (1993)، وهما كتابان تحكمهما نبرة صوت نقدية عالية، وصلا إلى مقولات حادّة حول مختلف ما يقدّمه المفكّرون العرب من أطروحات وبحث في ما يسكنها من خلفيات نفسية، فردية وجماعية. لكنْ مع بلوغ هذه الذروة النقدية (النادرة في الفكر العربي)، قرّر طرابيشي خوض تجربة "نقد نقد العقل العربي"، فتوقّف المشروع الشامل من أجل مشروع خاصّ (محمد عابد الجابري)، واستبدل قراءة الفكر الحديث بعودة إلى التراث الفكري.

هكذا، وعلى أهمّية مشروع "نقد نقد العقل العربي" وفائدته، فإنه أنهى مشروعاً أكثر جدّية وراديكالية وطرافة. ربما شعر طرابيشي بإرهاق جرّاء تلك السجالات التي خاضها، أو ربّما اعتقد بأنه بلغ ما يصبو إليه من نتائج، فقد غادر هذه المنطقة بعد أن شخّص أمراضاً تُنهك شروط الحياة في المنطقة العربية، أبرزها ما يُسمّيه بـ"المرض بالغرب". ويمكن قياساً على هذه التسمية أن نطلق تسمية "المرض بالتراث" الذي يمثّل الداء الأخطر الذي أعمل فيه المفكّر السوري مشرطه البحثيّ.

من منظور هذه الخلاصات، كيف يمكن أن نرى ثقافتنا اليوم، أي بعد مرور ثلاثة عقود من تشخيصات جورج طرابيشي؟ هل تقودنا بالضرورة إلى انتحار جماعي، أو ـ في صياغة أكثر تفاؤلاً ـ هل تقودنا إلى البقاء خارج التاريخ؟

قد تؤكّد نظرة عابرة لواقع العالم العربي، وخصوصاً صعود الجماعات المتطرّفة في العقد المنقضي، إلى اعتقاد بأن النكوص إلى الماضي قد بلغ أوجه مباشرة بعد أن لمع أمل الخلاص من التخلّف التاريخي إثر الانتفاضات الشعبية في 2011. ولكننا نعلم اليوم بأن هذه التيارات التي تقيم منطقها على تأويل مبالغ في الماضوية لم تجد حاضنة اجتماعية واسعة في مختلف البلدان العربية، وأن ما انتزعته من مواقع كان بالقسر والدعم الخارجي، وبالتالي يمكن القول بأن مرض التراث لا يزال آفة محدودة في الجسد الاجتماعي العربي، ولم يتحوّل إلى سمّ قاتل.

ساهم في تقليص الانهماك المبالغ بالتراث في الثقافة العربية

أمّا المرض بالغرب، وهو بحسب طرابيشي أصل كلّ انتكاسات العقل العربي الحديث، فقد هدأ جزءٌ غير يسير من الخطاب المشحون الذي تصاعد حوله في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وأدّى إلى شيطنة الغرب. فكرياً، ومع تطوّر جهاز الترجمة العربي خلال هذه العقود، انبنت علاقةُ أريحية جديدة قائمة على معرفة أوسع من تلك التي وُجدت خلال القرن العشرين.

وحتى لو لم يجرِ تجاوز "المرض بالغرب" تماماً، فعلى الأرجح أنه قد تحوّل إلى "منطقة مريحة" - بسبب التقادم - يمكن التعايش معها، ويمكن من داخلها بناء مؤهّلات مقاومة جديدة غير متوتّرة كما في تجارب سابقة. لقد أوضح جورج طرابيشي أن الغرب أنتج جرحاً نرجسياً عميقاً داخل الذات العربية بعد الهزيمة الحضارية التي مُنيت بها (الاستعمار وما بعده)، لكنّنا نعرف اليوم حدود هذه الهزيمة فلم يجر ابتلاع الثقافة العربية بالكامل، ولا تزال تحافظ على قواعدها الصلبة، كاللغة والعقائد ومقوّمات الشعور الجمعي، من بغداد إلى الدار البيضاء.

دون أن يدري، ربما يكون صاحب كتاب "نظرية العقل العربي"، قد نجح في قطع النزيف في أكثر من موضع من جسد الأمّة. فالنقد الراديكالي الذي خاضه، في فترة بداية التسعينيات خصوصاً، قد ساهم في تقليص الانهماك المبالغ به في التراث والتعويل عليه لشفاء كلّ أمراض الحاضر، وهو ما كان يُهدِر جهوداً فكريّة كثيرة كان أصحابها لا يكادون يرفعون رؤوسهم من الكتب العتيقة ويرون ما يحدث في العالم.

كما أن كشفه للدوافع العميقة التي تجعل شقّاً من النخب يدعو إلى قطيعة مع الفكر الغربي، قد ساهم في انتشار مقاربات أكثر توازناً في تناول الآخر، أي إنّ عدداً من المسارات نحو "الانتحار الجماعي" قد قطعها النقد الطرابيشي بشكل من الأشكال، غير أن صاحبه لا يبدو أنه شعر بهذا التأثير.

كان يمكن لطرابيشي، لو امتلك هذا الحسّ بنجاح بعضّ تطلّعاته الفكرية، أن ينظر إلى منعطف الثورات العربية بكثير من التحمّس، لكنّ الرجل كان قد كتب منذ عام 2000 في مقدّمة كتابه "من النهضة إلى الردة" بشكل يائس وحاسم: "إنني أنتمي إلى جيل الرهانات الخاسرة".

لو تجاوز هذه القناعة، لكانَ له أن ينهمك - مثلاً - في فهم التحوّلات في الفضاء الفكري العربي في لحظة 2011، تماماً كما فعل وهو يحلّل التغيّر الجذري الذي طرأ على الفكر بعد هزيمة حزيران (1967)، وقدّم أطروحة جريئة مفادها أن الخطاب الذي أنتجه المثقفون العرب هو الذي أدّى إلى تصفية المشروع النهضوي الذي يمكن استئنافه بإعادة بناء مقوّماته، وأهمها أن الهزيمة ليست بالضرورة مبرّراً للانكفاء. وهنا يلاحظ بحس نبيه بأن كِلا المرحلتين (خطاب النهضة المتفائل أو خطاب النكسة المهزوم) كانت شرارته هي الهزيمةُ ضد مشروع عدوانيّ؛ نابوليوني في نهاية القرن الثامن عشر، وصهيوني في ستينينات القرن العشرين.

الفارق بين اللحظتين هو أن هزيمةً كان لها مفعول إيقاظيّ وأخرى كان لها مفعول تخديريّ، وبدل إطلاق آليات الدفاع السويّ القائمة على التأهّل لمواجهة الواقع عبر التعرّف عليه، كما في لحظة جيل النهضة، انطلقت آلياتُ دفاع مَرَضيّ من خلال العزوف عن التعرّف على الواقع وعن مواجهته في نكسة حزيران. في هذا السياق، يستعمل المفكّر السوري عبارات يمكن القول بأنها من أيّامنا، أيّام كورونا، حيث يقول إن الارتداد عن العصر "يأخذ شكل جائحة أيديولوجية ووباء نفسيّ".

يُثبت طرابيشي أن الشريحة الاجتماعية المخصّصة لإنتاج وعي (الأنتلجنسيا) باتت هي التي تضخّ الأمراض (الفكر المهزوم، دعوة القطيعة مع الحداثة...)، وضمنياً كان يشير إلى أن تلك الأمراض بدأت تفعل فعلها في تدمير المجتمعات العربية من الداخل. لكنّنا نعرف اليوم أن الثورات العربية قد أثبتت أن الشعوب قد طوّرت مناعة ضدّ هذه الأمراض، وأنها لا تزال تتطّلع للانتماء للعصر، وأن الآفات التي أشار إليها المفكر السوري ليست أخطر ما يهدّد الإنسان العربي، وها إن المشهد أمامنا يثبت حالة عكسية بظهور أمراض أخرى (تتفيه معمّم، ارتفاع منسوب العنف...) ليس المثقفون سببها، بل غيابهم أو إقصاؤهم.

إن كانت الثورات العربية تقول شيئاً، فهو أن الشعوب ما زالت تحتفظ بمَلكة الأمل والتطلّع، وبروح التفاؤل، بغضّ النظر إنْ سايَرَتْها الأنتلجسنيا في ذلك أو واجهتها بتشاؤم العقل. أليس هذا سبباً في حدّ ذاته للنظر للمستقبل بأريحية أكبر؟

لقد أتت كثير من أفكار جورج طرابيشي بثمرتها، ولو في إطار محدود، وهذا المفعول الإيجابي يمكنه أن يملأ بعض فراغات ذلك الصمت الذي وسم السنوات الأخيرة من حياة المفكر السوري. لعلّه قدّر ذلك في نزهاته الباريسية فترك نصّه مفتوحاً على احتمالات كهذه الذي نطوّرها. من جهتي، لو صادف والتقيتُه وقتَها لطلبتُ منه أن يفكّر - بصوتٍ عالٍ من جديد - في المستجدّ من أمراض هذه الأمّة. تلك التشخيصات هي سَمادُ كلّ ثمرة ناضجة في المستقبل.

المساهمون