أيُّ قراءة يمكن للتشكيل أن يقدّمها عن الماء، إذ لطالما ظلّ الأخير عنصراً أساسياً في تأليف أدوات الأول، سواء على المستوى التقني للألوان، أو لو تحدّثنا عن الموضوعات، حيث يحضر الماء بقوّة بوصفه عنصراً طبيعياً في الكثير من الأعمال، وهنا اختلفت تأويلاتُه، وعاد ليتشعّب من جديد في أفق اللوحة.
ولكن الواقع يفرض على الفنان أيضاً التفاتة إلى الماء بما هو مكان إما للعبور أو الغرق؛ وهذا ما يتمثّل في معرض "نداء الماء" الذي يوقّع لوحاته الفنانان الليبيان: نجلاء شوكت ويوسف فطيس، ويتواصل حتى الرابع عشر من آذار/ مارس، في "بيت إسكندر للفنون" بالعاصمة الليبية طرابلس.
تنبعث الزرقة على امتداد الأعمال، آخذة بالكشف عن تدرّجات اللون ومساحاته التي يخلقها؛ إلّا أنها بالمقابل، تكشّف عن مصير لا يكون فيه ذلك اللون مبعثَ اطمئنان، بقدر ما يُلاحق أجساد العابرين، فيشدهم إلى مركزه، وكأنّ النداء هنا مثقلٌ بقوّة مغناطيسية، إنها في الحقيقة قوة البحر وجبروته.
تعالج لوحات الفنانَين مسألة الهجرة عبر المتوسط، والتي شكّلت خلال سنوات العقد الأخير ظاهرة سياسية وإنسانية، لم تدفع أوروبا لمراجعة سياساتها حيال المنطقة العربية، رغم آلاف الضحايا الذين قضوا أثناء محاولة عبورهم نحو الشاطئ الآخر.
مع ذلك ليست اللوحة في "نداء الماء" محض مشهدٍ مأساوي، حُكِم عليه سلفاً بنتيجة معروفة، بل تتبدّى في بعض ملامحها أجسادٌ ذات قدرة على الحضور، تستلف جبروتها هي الأُخرى من هول المواجهة مع البحر نفسه، وتُفصح عن مقدار من التلاحُم، فيقلّ أن نرى أفراداً معزولين، إنما يتركّز اشتغال اللوحة على المجموع، وإن استبدّت بقوامه الكلّي، وبضربة خاطفة، موجةٌ عاتية أعلى وأقوى.
في أعمال نجلاء شوكت تحضر المرأة بوصفها عنصراً قادراً على لَمِّ كلّ ذلك الافتراق، قواربُ ممزّقة وهديرٌ يُخيّل للناظر إليه أنه لا ينتهي، كل ما سبق لا يلبث أن يتكسّر لا عند صخرة صمّاء، بل عند يَدَين ترتفعان بالقوارب المُحطّمة؛ ونساء أُخريات يقفن متراصّات أمام لجّة تختلط فيها الزرقة بالسواد الداكن.
أمّا لوحة التشكيلي يوسف فطيس فتنحو أكثر صوب التجريد، ونتحوّل معه إلى مشهد أهدأ، ليست الأجساد والأمواج فيه متقابلة، ولا ننتتظر أيهما سيجتاح الآخر، بالعكس، فالخطوط التي تؤلّف الأجساد هي نفسُها يمكنُ تأويلها على أنها أمواج، وبهذا يتداخل العنصران بانحناءات وأقواس، إنْ أوحت بشيء فليس أكثر من انتصار على الماء بالماء.