نبوءة روبن داريو.. الوقائع العجيبة لدماغ الشاعر النيكاراغوي

18 اغسطس 2023
تمثال تذكاري لوجه روبن داريو قرب بحيرة نيكاراغوا، 2017 (Getty)
+ الخط -

هل كان الأمر يستحقّ كلّ هذا العناء؟ أم هي نبوءة الشاعر؟

في تقرير لها بصحيفة "لا برنسا" النيكاراغوية، تذكُر الكاتبة الصحافية دورا لوس روميرو "كابوسَ" الشاعر النيكاراغوي روبن داريو، الذي رأى فيه جسده مقطَّعا وأحشاءه متنازعة، بحسب أقارب الشاعر. وقد تحقّقَت النبوءة الكابوس فعلاً، في تمام الساعة العاشرة وثمانية عشر دقيقة من صباح يوم السادس من شباط/ فبراير عام 1916؛ إذ شُقّ جسده و"تفرّقت أحشاؤه بين القبائل".

لم يكن داريو، المعروف بكونه "أبا الحداثة في الشعر الهسباني"، قد بلغ خمسين عاماً حين وافته المنيّة. كانت نيكاراغوا تستعدّ لهذا الخبر، فقد عاد إليها من نيويورك قبل موته بعام، شاحباً ومفلساً، مصاباً بالتهاب رئوي، وباختصار، يحتضر. 

الصورة
روبن داريو
روبن داريو (1967 - 1916)

الجميع كان حوله حين توقّفت أنفاسُه، وانتشر خبر رحيل "أمير الشعر القشتالي" في العالم. عمّ الحزن مدينة ليون التي انتقل للعيش فيها، قُرعت أجراس كنيستها، وأُطلقت 21 طلقة من أحد حصونها.

الصحافة كانت مستعدّة لتغطية الحدث المفجع، وامتلأ المكان بالمصوّرين والصحافيين، إضافةً إلى أقارب الشاعر وأصدقائه. كان لكلّ شخص مهمّة عليه تأديتها: أليخاندرو تورّيالبا قطع حبل الساعة لتوثيق وقت الوفاة، رسّام الكاريكاتير أوكتافيو تورّييالبا رسم اللوحة الأخيرة للجثمان، وصنع الفنّانُ خوسيه لوبيس له قناع وجه من الجصّ. رتّب الحلّاق شعره وبدأ المصوّرون التقاط صوَر له. كان الهدف تجهيز الجسد لاستقبال آلاف المعزّين.

لكنّ مهمّة صديقه الطبيب لويس ديبايله كانت مختلفة تماماً: إخراج الأحشاء وتعبئة مكانها بالقطن وتحنيط الجسد، وفق المصادر التاريخية وشهادات أقاربه.

ويذكُر التقرير السابق أنّ تلك العملية استغرقت ثلاث ساعات، وأجراها الطبيبان لويس ديبايله وإسكولاستيكو لارا؛ إذ استخرجا دماغه، وسجّلا وزنه مباشرة (1415 غراماً). أخاطا الرأس ومشّطا شعره وهيّآه لاستقبال المعزّين في اليوم التالي.

احتفظ ديبايله بالقلب والدماغ وذهبت إحدى كليتَي الشاعر - لاحقاً - إلى "متحف الجامعة الوطنية"، ودُفنت البقية بجانب الجسد في كاتدرائية ليون. أراد ديبايله إجراء دراسات على دماغ داريو، وكانت تلك أيضاً رغبة أرملة الشاعر، روساريو موريّو، التي رغبت بالإشراف على الدراسة بنفسها، لتبدأ الصراعات.

شهدت وسائل الإعلام على ما حدث، وكذلك الجيران والمتواجدون في المكان... وتؤكّد الصحافية روميرو، في تقريرها، على ما هو معروفٌ ومتداوَل بين النيكاراغويين وأقارب الشاعر خصوصاً، بأنّ أخا أرملة داريو، أندريس موريو، لعب دوراً مهمّاً في ذلك المشهد الأقرب للسوريالية، فتذكُر كيف اقتحم الغرفةَ التي كان الطبيبان موجودَين فيها وبحوزتهما دماغ داريو، ليصرخ بهما وينتزع الدماغ منهما، فينشب خلاف ينتهي بسقوط الدماغ من أيديهم وتدحرجه نحو الشارع، لتصل أصوات المتنازعين للجيران ويتجمّع الفضوليون الذين صادف أن يكون بينهم ضابط شرطة، يُقرّر التحفّظ على  الدماغ في مركز أمني، حيث بقي فيه ساعتين، قبل أن يأمر رئيسُ البلاد حينها، أدولفو دياس، بتسليمه للأرملة، ويبدأ الدماغ رحلته الجديدة.

الصورة
من تشييع جثمان روبن داريو
من تشييع جثمان الشاعر

تذكُر شهادات الأطباء والصحافيّين - بحسب التقرير نفسه - أنّ أندريس موريو (أخا الأرملة) وضع الدماغ في حقيبة مهترئة ليُهربّه على ظهر حصان إلى بلدة لا سيبا القريبة من مدينة ليون، قبل أن يُنقل تحت مقعد سيّارة متّجهة إلى العاصمة مناغوا. وبحسب الصحافي غابري ريفاس، فقد وصل إلى مناغوا في زجاجة مليئة بالكحول.

بعد أيام، ظهر الدماغ في مدينة غرناطة النيكاراغوية، وتحديداً مع الطبيب خوان خوسيه مارتينيس، الذي طلبت منه أرملة داريو تصويره قبل الشروع بتحليله، وأكّد الطبيب ديبايله نفسُه أنّ ذلك الدماغ يعود لداريو.

وتحدّث التقرير عن الوثيقة التي نشرها مارتينيس في العشرين من حزيران/ يونيو 1916، بعنوان "دماغ وشخصية داريو"، وأكّد خلالها الطبيب أنّ الدماغ الذي بين يديه "يتوافق مع أدمغة العباقرة"، وبوزن استثنائي بلغ 1850 غراماً، لتنتهي القصّة عند ذلك الحد، دون أن يذكر مارتينيس أو موريو وديبايله شيئاً آخر.

ويقفز التقرير إلى عام 1962، أي بعد موت داريو بخمسين عاماً تقريباً، ليشير إلى وثيقة أُخرى في "جامعة كواديرنوس"، بتوقيع الطبيب سلفادور بيريس غريهالبا الذي قال إنّ الدماغ الذي أُجريت عليه الأبحاث لا يعود لداريو، بل لخيّاطة من مدينة سوموتو شمال البلاد، كانت مصابة بورم دماغي، إذ جرى الأمر بالشكل التالي: طلب الطبيب ديبايله من غريهالبا استبدال دماغ شخص بدماغ داريو، مساء الثامن من شباط/ فبراير 1916، وصادَف وجود جثّة بمستشفى "سان بيسينتي" مُعَدّة لدرس التشريح لطلّاب الطب، وتتناسب مع طلب ديبايله، وهكذا جرت عملية الاستبدال - على الأرجح في المركز الأمني.

الصورة
تمثال أسد يحرس ضريح روبن داريو في كاتدرائية ليون
تمثال أسد يحرس ضريح الشاعر في كاتدرائية ليون

بقي الدماغ دون مواد حافظة حتى تشوَّه، بحسب الوثيقة، فقرَّر ديبايله دفنه بجانب الجثّة في كاتدرائية ليون، مقتنعاً أن لا أحد يمكنه أن يمتلك عقلاً كعقل داريو، وأبقى على ذلك السرّ تجنّباً لنبش القبر.

ما زال القبر يشكّل وجهة سياحية لكثير من زوّار مدينة ليون التاريخية في نيكاراغوا، وهو معروف ولافت بتمثال الأسد الواقف بجواره، ولا يُعرف حتى اليوم ما إذا كان هذا "الأسد التمثال" يحرس الجثمان المفرَّغ من الدماغ، أم يحرسهما معاً. من يدري؟


* صحافية ومترجمة أردنية فلسطينية مقيمة في نيكاراغوا

المساهمون