ناصر عجمي.. وثائق الانفجار البيروتي

05 ديسمبر 2021
(من المعرض)
+ الخط -

حين نصل إلى مكان المعرض، نجد آخر النزلة التي أودعنا في مطرح منها السيارة التي أقلّتنا، نرى، من فوق، صالة منطفئة نتّجه إليها، لكنّنا من خلال الزجاج الذي رمقنا عبره أشخاصاً يتجوّلون، نفهم أن هذه ليست لوحات ناصر عجمي وهذا ليس معرضه. يدلّنا شخصٌ لقيناه في الباركينغ على منزل ناصر. سيبقى هذا الشخص أمامنا وسنعاود لقاءه بعد أن نخرج من المعرض.

منزل ناصر في مبنى نصعد إليه على سلالم في واجهته. ليس المبنى الوحيد على هذه الشاكلة: إنه محاط بمبانٍ سلالمها وشرفاتها أمامها. أسلوب معماري يعود إلى عقود في القرن الماضي، والحيّ، كما نلاحظ، بقي على حاله من تلك الفترة. إنه حيٌّ قديم نتعجّب من أنه بقي هكذا من هذا القِدَم. الأشرفية، القطاع الذي يوجد فيه الحيّ، تعرّضت لتجديد متواصل لا نراه أمامنا. أمامنا ليس فقط ذلك المعمار القديم، بل أُنُسه، وكذلك مظهَرُهُ والتاريخ الحاضران فيه.

يطلّ علينا ناصر من أعلى السلّم ونصعد إليه ثلاثة سلالم. هنا منزله الذي رأيناه، في صور فوتوغرافية، ركاماً؛ فالحيّ يطلّ على المرفأ الذي انفجر في 4 آب. لقد كان على مقربة من الانفجار، ولولا أنه محميّ بمبنى في الخلف، لكان سقط تماماً. المنزل، إذاً، تضرّر من الانفجار ولم يعد إلى سابقه إلّا بعملية اشتركت فيها عدّة مؤسسات.

ليس هذا وحده ما دعانا إلى حضور معرض "لنبقى ـ بيروت" (استمرّ حتى العشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي)؛ فالمعرض نفسه وثيق الصلة بهذه المناسبة. معرض ناصر عجمي ذو موضوع وحيد هو الانفجار، بل إنه يُعيد إلى المنزل الذي تداعى بسبب الانفجار، يعيد الانفجار مجدّداً إليه. لقد جئنا من غربي بيروت إلى هذا الحي في الأشرفية، لنجد أن الانفجار لا يزال يعمل ولا يزال متّصلاً في المكان القريب جدّاً منه.

معرضٌ يعيد تفجير بيروت إلى منزل الفنان الذي تداعى بسببه

المعرض هو عن الانفجار، بل هو في لوحاته، التي يصل بعضها إلى أكثر من متر، يبني على صور فوتوغرافية لما بعده. بل إن واحدة من هذه الصور، تلك التي تمثّل الأهراءات التي بقي مبناها قائماً، وإنْ بدرجة من التداعي، في وجه البحر. هذه الصورة هي التي انبنى عليها جزءٌ كبير من المعرض، الأمر الذي يطبع المعرض بنوعٍ من التوثيق، وبحيث يبدو كلّه وثيقة عن الانفجار، وما يجعلها أكثر نفاذاً هو أنها في المكان الذي شهد الانفجار، بحيث يتراءى لنا أنه لا يزال فاعلاً ولا يزال قائماً وفي موضعه.

صورة الأهراءات هذه مصنوعة بطموح إلى أن تحافظ، قدر الإمكان، على أصلها الفوتوغرافي؛ يُساعدها على ذلك حجم يتجاوز المتر في بعض لوحاتها. إذ إنها حاضرة في أكثر من خمس لوحات، معظمها بالأسود والأبيض، في إيحاء بالأصل الفوتوغرافي، الذي يبقى، مع ذلك، ماثلاً حتى حين يدخل إليها اللون الذي يتّجه غالباً إلى أن يركّز على هذا الأصل ويعمل فيه. إنه هكذا نوع من تظهيره وتجسيمه. هكذا يمكننا أن نجد في المعرض ما يشبه أن يكون إعلانَ الانفجار وحكايته وعنوانه، في أكثر من صورة، قرباً وملموسيّةً. هذه الاستعادة لأكثر صور الانفجار دارجيّةً، يحمل، إلى جانب الغرض التوثيقي، ميلاً إلى حكاية الانفجار وسرده وتحويله إلى لوحة وإلى فنّ.

تلك الحكاية لا تبقى على صورة الأهراءات. فهي بعد أن تُشبِع التوثيق والأداء شبه الفوتوغرافي، تتّجه إلى درجة من التنويع السردي الذي لا يخلو من لعب الخيال، والمزاوجة بين السرد والفنّ. هكذا يدخل الماء إلى اللوحة، فنرى عنصراً ثانياً هو خيال اللوحة ولعبها وإضافتها الفنية. الماء الذي هو ماء البحر وموجه، لا يأتي بذات القصد الفوتوغرافي الذي يطبع رسم البناء ورسم الحجر. إنه ليس أسودَ وأبيضَ بل هو ملوّن، الأزرق المزيج بين جانبين حجريّين بالأسود والأبيض، الأزرق المزيج تحت الأهراءات وتحت المباني.

الماء هكذا يتسلّق على الحجر والمباني؛ إنه يلعب ويتوهّج تحت المباني الصامتة بحجرها وأسود أبيضها. ها هنا تتحوّل الوثيقة مشهداً وتتحوّل طبيعةً وتتحوّل لوناً. لن يبقى الأمر هنا فحسب؛ البحر لا يضيف لوناً فقط، بل يضيف فصلاً آخر وربما لوحة ثانية. اللعب واللون لن يكونا فقط شأن البحر، إنهما أيضاً شأن الجوّ الذي يشتعل أحياناً باللون. هكذا نجد الأحمرَ المزيجَ وراء المباني ووراء الرُّكام الحجريّ وراء الأسود والأبيض الفوتوغرافي. هنا الأحمر الخيالي المشهدي. هكذا نجد الوثائقي محاطاً بالخيال، الفوتوغرافي محاطاً بالفني. هكذا يحوم معرض ناصر عجمي حول الوثيقة ويلعب عليها وفيها. من الوثيقة إلى الفن ومن الواقع إلى اللوحة.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون