"صرخة الغضب: دراسة بلاغية في خطابات الانتفاضة اللبنانية" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً للباحث والأكاديمي اللبناني نادر سراج عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بتقديم رمزي بعلبكي، ويتقصى خلاله بشكل منهجي وعملي مفهوم "خطاب الهامش" وآليات اشتغاله.
الإشكالية التي يرتكز إليها الكتاب، وينطلق منها ليرسمَ فرضيات ويطرح أسئلة محقّة، تتمحور على نحوٍ رئيس حول الكيفيات والآليات التي اكتنفت حضور المكوّن اللغوي، بمستوياته التداولية وبوظائفه الإقناعية والبلاغية والإبلاغية، في مفاصل هذه الانتفاضة الشعبية العارمة ومثيلاتها.
ويطمح المؤلّف إلى إثبات فرضية بحثية، مفادها أن التبدّلات التي شهدتها مجتمعاتنا العربية المنتفِضة، بساحاتها المشرَّعةِ الفضاءات، أكّدت أنّ اللغة والشارع اللذين لطالما كانا من قوى الثبات عدّلا أشرعتهما بفعل الحراكات والانتفاضات "الربيعية" المتنقّلة، وطوّرا وظائفهما؛ فالتزما قدر الإمكان جانب قوى الحراك وأهله، وأضحيا لسانَ حال اللائذين بهما. تحاورا وتآزرا لإيصال الصوت وإبلاغ الرسالة ورفع المطلب، وإدانة الفاسدين كل الفاسدين. خرجت بلاغة اليوم من عليائها، ونفضت ثوب تقليديتها لتلامس مواجع الناس، وتتكلم لغتهم وتنطق باسمهم.
يتناول المؤلف الاستعارات الدلالية التي وظفها الشارع لتخدم الشعارات المتنوعة
ودرس يراج ضمن خمسة أقسام خطاب الغضب والشعارات المبتكرة، وحرص في القسم الأول مثلًا، الذي أفرده لطرح الإشكالية والعلاقة بين البلاغة واللسان والمجتمع، على توضيح مفهوم "البلاغة الاعتراضية، وخاصة في الفصل الخامس المعنون: "البلاغة الاعتراضية تجدد ذاتها والشارع الغاضب ملهمها".
وتناول في القسم الثاني "الشعار تركيبًا ووظيفة بعيون اللسانيات والبلاغة"، دارسًا أحوال الفاعلين الاجتماعيين ولغتهم وكذلك العلاقة بين اللغة والعنف. ثم درس، في القسم الثالث "المجازات والشفرات مدخلًا لإدراك العالم"، الاستعارات الدلالية التي وظفها الشارع لتخدم الشعارات المتنوعة، فعاين كل هذه الرموز السيميائية المتفرقة. وفي القسم الرابع "البلاغة تتقصى شعارات الغضب اللبناني"، عاين صور البلاغة الشبابية في ابتكار الشعارات وخرق المحرمات وعالج مفهوم "البلاغة المضادة" وإيقاع بعض الشعارات وصيغها الشرطية التي تحاكي الحاضر والتراث الثقافي المجتمعي. وفي القسم الخامس والأخير "نماذج بلاغية منتقاة من الحصيلة الشعاراتية الاحتجاجية"، قدّم الكاتب تفاعل الصحافة ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيري ومواقع التواصل، ووصل إلى خلاصات واستنتاجات عامة، تحاكي سيرورة الهتاف العربي والشعارات المتشابهة المتحاكية في ساحات الثورة والاعتراض.
يتحدث الكاتب عن البلاغة الجديدة بوصفها مفهومًا ووظيفةً وصيرورةً، فهي الحاملة مشاعر الاعتراض والاحتجاج المشوبة بأمارات الغضب، والجريئة إلى حدّ ملامسة البذاءة أحيانًا، وإنّ طرائقَ إبلاغها المبتكر رسائلَها للجمهور، هي محور الكتاب ومطمح واضعه.
وتقصّيًا لصيغها المبتكرة، استند المؤلف إلى شواهد كثيرة، متنوّعة وموثَّقة توزعت في ساحات بيروت والمناطق. فدرس وحلل وبيّن كيف أنّ الجِدّة البلاغية، بما فيها الاستعمالات الاستعارية والتمثيلات الذهنية، أفلحت مسعى على أيدي شباب غير متخصّصين، أو متعمّقين بالضرورة في علومها، فأساليبُ الإبلاغ التي اعتمدوها، بل ابتكروا أو جددوا بعضها، وتفنّنوا في تشكيلها وإخراجها، بلغت مقاصدها. استقطبت جمهورًا سلميًا عريضًا، لاسياسيًا، متعطِّشًا إلى التغيير. هذه البلاغة المتجدِّدة، روحًا وأسلوبًا، لاقت استساغةً وقبولًا حسنًا عنده. رفدته بأدبياتِ مواجهةٍ عصرية، منطقية وموائمِة. وسندته بأبجدياتِ دفاعٍ محصَّنة، مدعَّمة عند الضرورة بالشتائم المغنَّاة والموقَّعة الكلمات، وبالتهكّم المجبول بإساءات لفظية جارحة. لم يأتيا من عدم، بل اتّكآ على هياكلِ أغانٍ شائعة وأخرى ولادية وأهازيج معروفة ومتداولة شعبيًا. المعنيون والمعنيات عدّلوا بعض تراكيبها، وبدّلوا في مفرداتها كي تناسب المقام، وهي في الإجمال لا تخرج عن دائرة اهتمام الشباب المنتج مثل هذه الشعارات والهتافات. الملاحظ أنها ما خدشت حياء رافعيها ومردّديها من مختلف الأجناس، أو أعاقتهم عن استعادتها مرّاتٍ ومرّات، بملء أصواتهم (هنّ)، وبحماس زائد لفت الأسماع.
ويبرز الكتاب بأن الجمهور المحتجّ، ممثّلًا بناشطيه وناشطاته، اصطنع بدراية لغةً تشبهه، لغة تتماهى روحًا وفكرًا وصوغًا مع خلفيات منتجيها، وارتقابات متلقّيها، ومردّدي مفرداتها. وتظهيرًا لصورتهم "الثورية"، ابتدعَ الناشطون أساليب صوغ مبتكرة وجريئة لشعاراتهم، وهتافاتهم المُدينة للطبقة الفاسدة، والمعبّرة عن حقّهم وتوقهم إلى حياة حرّة كريمة، جاءت عاليةَ النبرة واضحةَ الرؤيا، رشيقةَ السبك، وقابلةً للتعديل والتنغيم. أغلبية هذه النواتج القولية سُبكت بألفاظ مأنوسة وتراكيب متماسكة.
لم يتخلّ الشباب المنتفضون عن ثوابتهم، ولا هم أهملوا موروثهم، بالرغم من تكوينهم العلمي وثقافتهم الرحبة واطّلاعهم المستدام على تكنولوجيا المعلومات؛ إذ نهلوا من مخزونهم الثقافي، واستندوا إلى تراثهم الفني الذي ينطوي على مجموعة أغانٍ تطريبية شائعة، وأخرى "ودّية"، وثالثة ترقيصية، وفق الكتاب. وكي ينقلوا رسائلَ ساخنة وعاجلة ومباشرة لمن يهمّهم الأمر، لجأوا إلى صنوف التناص بين الخطابات ذات الصلة بطبيعة حَراكهم. فعدَّلوا واستعاروا وبدَّلوا في التراكيب والألفاظ العائدة لأقوال مأثورة وحكم وأمثال شعبية وأغانٍ شائعة.