ببساطة، هناك مَن لا يصلهم الشعر، ولا أقصد تنوّع الذائقة في الشعر، كأنْ تقول إنّ شاعرية محمود درويش لا تصلني، أو أنسي الحاج، أو ربّما بسام حجار. لا، ليس هذا. المقصود أنّ فِطرة الشعر من أساسها مفقودة، بِذرة الشعر في مكان ما ضَمَرت وجَفّت.
وكما هي الحال دائماً، حين أتحدّث عن الشعر، فأنا أتحدّث عن شاعرية العالَم، التي ليست بالضرورة شعراً بالمعنى المحدّد، فثمّة شاعرية السينما، وشاعرية الرواية، واللوحة، والعمارة، وغير ذلك كثير...
نستطيع أن نفترض، بدون كثيرٍ من المجازفة، أن هناك ما يمكن تسميته بفطرة الشعر، هي ذاتها التي وصلتنا آثارُها ــ شعراً ــ مع أوّل ما وصلَنا من كتابة، على الأقلّ منذ خمسة آلاف سنة هي عمْر الكتابة نفسها. الشعرُ كان في الألواح الهيروغليفية المصرية، كما كان في أقدم الكتابات المسمارية التي وصلتنا من السومريين والأوغاريتيين. ونستطيع أن نفترض أن الشعر الشفاهيّ كان أقدم من ذلك بكثير.
هكذا يبدو الشعر وثيقَ الصلة بسيرة الكائن/النوع منذ بداياتها، كما لو أنّ الإنسان يحمل في خلاياه تلك الشيفرةَ المنقوشةَ في تكوينه الجينيّ، الوثيقةَ الصِلة بكل ما كوَّنَهُ كنوع. طوال هذا التاريخ، الشعر كان يحتلّ مكان الوثن ــ بمعنى ما ــ في السيرة الإبداعية للنوع، وما من دليلٍ على ذلك أهمّ من أنّهم كتبوه على الألواح الطينية وحفروه على الأحجار ونسخوه على رقّ الغزال وورق البرديّ. كل هذه الوسائط والأدوات كانت ثمينة وعمّالها وناسخوها أيضاً كانوا نادرين...
ثمة ما هو مشترك بين مَن يجهلون الحبّ ومَن لا يصلهم الشعر
ألّا يصلك الشعر، حالةٌ تُشبهها في الطبّ حالةٌ تُسَمّى "حَبسَة " (Aphasia)، أي أنّ الكائن يرى الكلمات بدقّة ويعرفها، أو أنه يسمعها ويميّزها، لكن لا يصله أيُّ معنى أو انطباع أو تأثير أو انفعال.
بالنسبة إلى هؤلاء، انتقادُ الشعر، وُجود الشعر إطلاقاً أو غيابُه سيّان. يشبه ذلك أن ينتقد الأصمُّ الموسيقى أو أن تشرح لمَن لديه عمى ألوان الفرقَ بين الأصفر الليموني والأصفر الذي تشوبه لوثةٌ من أحمرَ خفيٍّ كامنٍ في ثناياه.
الروائي غابرييل غارسيا ماركيز تحدّث مرّةً عن أن نصف الناس ربما لا يعرفون الحب، واعتبر ذلك مأساةً... هي مأساة فعلاً، على الأقلّ للعشّاق... مثل هؤلاء ليس لديهم أيّ فكرة عن الحبّ سوى ما سمعوا عنه أو قرأوه... يستغربون الحالة من أساسها. وكما أنّ العشّاق لا يحتاجون إلى تعريفٍ للحب، كذلك الشعراء لا يحتاجون إلى تعريفٍ للشعر. ثمّة ما هو مشترك بين هؤلاء الذين يجهلون الحبّ والذين لا يصلهم الشعر: أعتقد أنهم هم أنفسهم، الأكيد أنهم إنْ لم يكونوا الصنف ذاته، فهم صنفٌ قريب...
ما أردت أن أقوله أيضاً: إنْ كنتَ من هؤلاء، تجنّبْ الحديث عن الشعر، ابتعدْ عنه واعتبرْهُ عَدَماً، اذهب إلى مكانٍ آخر، تحدّث عن كرة القدم مثلاً، تحدّث عن صناعة الأسلحة، أو عن صناعة الصابون، عن أي شيء...
في حوارٍ قديم أجبتُ عن سؤال "مَن تقرأ؟ ما هو الكتاب الذي يرافقك كندْبة؟". أجبتُ يومَها: "الأحمر والأسود" لـ ستندال، الفرنسيّ من القرن التاسع عشر، وأضفتُ: ثمّة "ندبات" عديدة؛ الشنفرى، وامرؤ القيس، وعروة، وبشّار بن برد، وسعدي يوسف، وبول تسيلان، وغيليفيك، وهمنغواي، وإيتيل عدنان، وماركيز، وكارل ماركس، وغيرهم كثير. أقرأ كلّ ما تقع عليه عيني، بعد ذلك قد أتابع ما أقرأ بنهَم، أو أغادره من أوّل لقاء، أو بعد أوّل لقاءٍ بقليل.
الآن أرى هذا الجواب فائضاً.
لو سُئلتُه من جديد لأجبت هكذا: كانت هناك غرفة زرقاء صغيرة، لها نافذة واحدة تفضي إلى الأخضر الباذخ للغوطة في الصيف... كنت أبالغ في تعتيم الغرفة كيما تبقى تلك النافذة وأشجار الجوز الهائلة عبْرها المصدرَ الوحيد للضوء واللون. ما أظنّه أنّه في أماكن كهذه تكوّنتْ ذائقتي الأدبية، لا في الكتب...
* شاعر سوري مقيم في باريس