سؤال المطالع مُلِحٌّ جدّاً في الرواية، ديوان العرب الحديث كما يدعوها البعض، ربّما بقدر ما كانت عليه الحال مع ديوانهم الأزليّ: الشعر. أوَلمْ يُسمُّوا قصائدهم بمطالعها؟ بالتأكيد لم ينسحبِ الأمر بحذافيره على السرد، فلا نجدُ رواية (على حدّ عِلمي) سُمِّيت بعبارتها الأولى مثلاً، لكنّ الانشغال يبقى قائماً، كون هذه العبارة هي المفتاح، أو واحدة من "عتبات" النصّ. مع ذلك فإنّ المرجعية في هذا ليست نقديّة مدرسيّة صارمة، بل تذوُّقية أقرب إلى "تراسُل الحواس"، بتعبير الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمد الأسعد (1944 - 2021)، الذي تُصادف اليوم ذكرى رحيله الثانية. فأيُّ المطالع نقرأ في رواياته، وإلى أيّ شيء تُحيل؟
في "أطفال الندى" (1990)، يكتب: "على قمّةٍ شبه مُستويةٍ في النّهاية الجنوبية لجبل الكَرمل، تربض قرية أمّ الزِّينات الفلسطينية". عفويّةٌ أُولى بعيدة عن ألاعيب الشكل، مأخوذة بالجغرافيا الفلسطينية، وبمسقط رأسه (أم الزينات) خاصة. ورغم أنّ الرواية تروي عوالمها بلسان طفل، بما يعنيه ذلك من تعميدٍ كامل للسرد في نهر الذاكرة وما يعتريها من ضباب، لكنّ المُفتَتحَ استشرافيٌّ كاشف من "على قمّة شبه مُستوية". السارد يُراقب من علٍ، ثم يهبطُ تدريجيّاً ليَثبَتَ عند ارتفاع 317 متراً عن سطح البحر... عُلوُّ قريته.
"لم يكتب أحدٌ قصّتهم حتى هذه اللحظة، هؤلاء الذين نستطيع اعتبارَهم قبيلة فلسطينيّة مفقودة سُبِيت وأُرسلت بعيداً عن الكرمل ومرج ابن عامر". إن مطلع "نص اللاجئ" (1996)، دعوةٌ إلى التدوين والتأريخ، انطلاقاً من جغرافيا النكبة. ومع "شجرة المسرّات" (2001)، نقرأ سيرة تاريخية - عجائبية لابن فضلان تتقافز فيها الأرواح: "قُتل مرّاتٍ، وعاش مرّاتٍ، ولم يعُد راغباً بالولادة إلّا في صورةِ طائرٍ أو شجرةٍ أو حجر".
سأُطلِقُ كلَّ ما فيكَ لتكون لي أيّها الطائرُ الحجريّ
المغامرة الشكلانية الأقوى توجد في "حدائق العاشق" (2001)، ذلك النصّ الحسّي الممتدّ بنفَسٍ طويل. لا يحضر المكانُ قريةً فوق جبل ولا مدينة قاسية، بل تطرية وعذوبة يتّكئُ عليهما الجسد في عزّ شهوته ليحملَ فصلُ الرواية الأول عنوان "أثينا". واللّافت في هذا الفصل أنه قصائد شعرية خالصة. روايةٌ أوّلها شعرٌ كادت أن تُسمّى بمطلعها "أغنية الطائر الحجري":
سأُطلِقُ كلَّ ما فيكَ
لتكون لي
أيّها الطائرُ الحجريّ
يا صمتَ قيثارةٍ ضائعةٍ
في ضبابِ القرونْ
حيث يجدُ مسرّاتِه قلبي
وتجد أسماء لها
هذه الوردة..".
وختاماً بـ"أصوات الصمت" (2009)، نقرأ: "لم يعُدِ الأصدقاء يعيشون في حجرات البيت الخشبيّة المُطلَّة على البحر، ولكنّني أسمعُ أصواتهم في أحلامي حين يستلقُون على أسرَّتهم أو يُغادرون أو يتجمعَّون في آخر الصيفِ عائدين من برلين أو بيروت أو دمشق أو قبرص". تخلّى السارد عن دثار الطفولة. هُنا واقعٌ قاسٍ. يحضر الجزمُ منذ الفعل الأوّل توطئةً لعمل يحكي عن صفعات وخيبات وصداقة شتّتها عُنف المنافي.
نعم، لقد اتّسعت الجغرافيا من القرية إلى المدينة. لكنّنا لم نهبط عن تلك القمّة إلّا إلى حدود الأَسرَّة الواطئة... إلى حدود الإنهاك.