يمثّل حضور ميلان كونديرا، الذي رحل عن عالمنا أمس الثلاثاء (1929 ــ 2023)، ظاهرةً في الثقافة العربية. وهو ظاهرة، لا لأنَّ مجتمع النخبة يقرأه ويُعيد تصدير أفكاره أو أساليبه للقارئ العربي، بل هو ظاهرة لأنَّه مقروءٌ على نطاق واسع، إلى درجة يعتقد المرء معها أنَّ الجميع قد قرأ إحدى روايات الكاتب التشيكي. وصوله مباشرٌ للقارئ. وشهرته دفعتْ تياراً من المهتمين إلى الانتقاص من أهميته باللغة التي تُرجم منها إلى العربية، وهي الفرنسية. دليلهم إلى ذلك، فقرُ الترجمة العربية نفسها، وتقريباً غياب آليات الترجمة، الأمر الذي قد يؤدّي إلى تصدير اسم إلى العربية على حساب أسماء أُخرى، لأسبابٍ أحياناً قد تحكمها من جهة الصدفة المحضة وبالطبع آليات المركزية الغربية. الترجمة إلى العربية تضع شهرة كاتب عالمي بالعربية موقع شبهة. عدا عن أنَّ القارئ العربي يقرأ الرواية من موقعٍ يفترضه، في ثقافة لم تعرف مساهمات جذرية في الرواية العالمية الحديثة.
لكن يبقى صاحب "الحياة في مكان آخر" ظاهرة بين القرَّاء العرب. ما من قارئ قرأ أدبه إلّا ولديه مسوّغ كي يشير إلى ما جعل من كونديرا كاتباً خاصّاً بالنسبة إليه. لا أخال أنَّ عيوب الترجمة العربية هي التي صنعت هذا الاسم اللامع بين قرَّاء العربية. أظن أنَّ شهرته، وسمعته، ودفاع قرّائه العرب عن أحقيته بجائزة "نوبل للأدب" تجيء من أدبه نفسه، ليس فقط من الموضوعات، بل كذلك من أسلوبه، من عمله كفنان.
وكونديرا، في مجمل رواياته، يتأمَّل الوجود فلسفياً، أو بمعنى أكثر دقّة: يتأمل تجربة عيش الإنسان داخل أنظمة من العلاقات التي تغرّب الإنسان وتحطّمه. سرده، بالمبدأ، يخلط ما ينبع من داخل الإنسان، من جوهره، من حقيقته الصافية التي يضيء فيها الخير إلى جانب الشر، مع ما يأتي من خارج هذه النفس التي تستقبل تجربة العيش مع ما تأتي به، بدءاً بالعلاقة مع الآخر، حبّ الآخر، تملُّكه، اشتهائه، السأم منه، ومعاندته.. إلى العلاقة مع النظام في بلده، إلى المنفى، والعلاقة مع الوطن الأول والهوية الأولى. مروراً بالتردّي الذي يُحدثه الزمن نفسه، مع تراكم الخسارات وتعذُّر فهم الإنسان جدوى عيشه.
شكّك البعض بأهميته كروائي انطلاقاً من عيوب ترجمته العربية
كما أنَّ لكونديرا فلسفته الخاصة في معظم الموضوعات التي كتب عنها، لا الموضوعات التي ينشغل فيها الأدب فحسب، بل أيضاً في ما يخص الأدب نفسه. إذ كتب رؤيته الخاصة لفن الرواية في عدد من الأعمال ("فن الرواية"، "الستارة" وغيرهما)، وهو فن يختلط لديه مع فنون عديدة. وهو من الكتّاب الذين نظّروا لفن الرواية من وجهة نظره، كمشتغل ومجرّب لهذا الحقل الكِتابيّ.
إلى جانب التشويش على أهميته كروائي، عبر الإشارة إلى عيوب حقل الترجمة العربية، تعرّض الروائي الراحل أيضاً إلى تشويش آخر، يتمثّل في علاقاته الغامضة بالنظام الشيوعي في بلده، في مرحلة من حياته سبقت رحيله إلى فرنسا. وأظن أنَّ حياته بعيداً عن الأضواء قد ساهمت إلى درجة كبيرة في جعل الآخرين يملؤون الفراغات التي تركها غيابُه. عزوفه عن القول المباشر أفسح مجالاً لشيوع روايات الآخرين عنه.
كونديرا مثالٌ لكاتب يقول ما يريد، في رواياته. ويمكن أن يقع قارئٌ على سيَر عديدة مفترضة لحياته في الروايات التي كتبها، فأدبه معنيٌّ بجوهر حكاية الإنسان بلا افتراضات، ولا مبالغات في التخيُّل، إلّا في الإطار الساخر الذي يدين النظام، أو في الإطار الحميمي الذي يشرح العلاقة مع الآخر حتى أقصاها، أو في الإطار التراجيدي الذي يذكر فيه وطنه. وقد انشغل في سياق مستمرّ من القضايا التي تعني الفرد، وتعرّف وجوده، وأحياناً تطلق تعميمات، لها ما يؤكدها في عالم كونديرا الروائي. لكن خارج عالمه، فالحياة عرضة لأنْ تختلف عن الفن، لأنْ تُعارض الفن، ولأنْ تَقتل الفن، وتنفي الحاجة إليه.
نماذج كونديرا، ولو أنَّها تبدو نماذج واقعية من الحياة الأوربية، إلّا أنَّها أقرب إلى أن تكون نماذج صافية خُلقت في مخيلته، واستمرت بالعيش في معترك الفن، مع استراقات موجزة أو تقاطعات مع الحياة بالصورة التي نعيش فيها. وربما تكون شخصيات روايته الشهيرة "كائن لا تحتمل خفته" مثالاً لتلك الشخصيات التي ركّبها في مختبره الفني. ذلك أنَّ الشخصيات تمثّل اتجاهات نفسية تبدو أبدية لمدى إخلاصها للمقولة التي تريد إيصالها. ذلك أنَّ الطبيب الذي انتهى مزارعاً إثر مضايقات النظام الشيوعي له، تنازعت حياتَه سيدتان؛ إحداهما مهووسة بالرحيل ــ رحيل يشبه الجرح المفتوح ــ وأُخرى مهووسة بالبقاء، بقاء يشبه الندبة.
ترك بُعده عن الأضواء فراغات ملأتها افتراضات الآخرين حوله
استقرار الشخصيات، إخلاصها لمنطقها، جعلا منها شخصيات تنتمي إلى الفن، أكثر مما تنتمي إلى الحياة التي تحمل تناقضات ومفاجآت. لكن لا يوجد ما يمنع أن يستخدم المرء شخصيات كونديرا في يومياته كي يستهدي بها، لتأكيد فكرة أو نفيها. فالنساء يجدن أنفسهنّ، إمّا في سابينا أو في تيريزا. وأظنّ أنَّ مقدرة كونديرا على صناعة نماذج فنية تستلفها الحياة، هي إحدى مهاراته التي ساعدت على شيوع أدبه، وصناعة هذه الظاهرة التي قرأها الجميع. إذ ابتكر العبقريُّ أسلوباً يطلق فيه الفن بصفاء نماذجه، إلى العيش. وهو بهذا يخرّب النقاء الظاهري للعيش.
كونديرا بهذه الرواية على سبيل المثال، صنع اختراقاً فنّياً لهدأة الحياة. وبعيداً عن افتراضات الترجمة وعن سيرته الحياتية، يمكن أن يفسر المرء هذه الظاهرة، من أدبه فقط، لأنَّ أدبه ــ ببساطة ــ يمكن أن يكون رفيقاً للقارئ في لحظات متمايزة كثيرة من مشوار حياته. أدبه من ذلك النوع الذي يمد يده إلى القارئ، يدفع به قدماً في تجربة وجوده، وفي تجاربه العاطفية، من غير أن يتعالى عليه، من غير أن يستخدمه أو يستخف به، من غير أن يؤطّر له عالمه في الأفكار المقدسة، أو في التقديس بالمبدأ. أدبه خرج للتوّ من مختبر الفن، كي يعرّي سأم الحياة وهزلها.
* روائي من سورية