مهنّد يونس... عن مبدع فلسطيني حُجِب إبداعه أيضاً

22 أكتوبر 2023
مهنّد يونس
+ الخط -

تغيّرت نوعيّة القراءة بالنسبة إلى من كان يبدأ يومه بمتابعة أحداث الرواية من حيث توقّف بالأمس. تحوّل الاهتمام، منذ السابع من الشهر الجاري، إلى ما يحدث في غزة، وفي بقية الأرض المحتلة، وإلى ما يمكن أن يحدث، في أيّة دقيقة، في أيّة بقعة من هذه المنطقة التي غُرست "إسرائيل" في تربتها كنبتة هجينة، وراحت منذ عام 1948 تزعزع هذه التربة الطريّة بعد الاستقلال بجذورها السامّة الغليظة، التي لا تضرب في الأرض عميقاً، بل تمتدّ قريباً من السطح، وتتوسّع أفقيّاً في الاتجاهات كافة.

ربّما تبدُّل الأولويات هذا، من القراءة الأدبية إلى قراءة الصحف ومتابعة الأخبار، ومن محاولة الكتابة إلى محاولة فهم ما يجري وما يمكن أن يجري، هو ما جعلني أتذكّر مهنّد يونس، القاصّ الفلسطيني الذي انتحر في غزة في عام 2017 وهو بعمر 23 عاماً. قرأتُ لمهنّد عدداً من القصص القصيرة قبل سنوات، وقد مسّتني لأنّه نجح في أن ينقل عبرها وجعه، وافتقاده للاستقرار والحب، وغُربته ورغبته بالرحيل إلى زمان ومكان آخرين. حصلتُ من معرض الكتاب الجاري في بيروت هذه الأيام على مجموعته الثانية، "الآثار ترسم خلفها أقداماً"، وقد سبقتها مجموعة بعنوان "أوراق الخريف"، صدرتا كلتاهما بعد موته.

مع العدوان الأخير والمستمرّ على قطاع غزة فهمت حال مهنّد أكثر، أو اقتربت من ذلك أكثر، إذ لا يمكن لأيٍّ من الأحياء أن يضع نفسه في مكان من فقد الأمل بالحياة واختار الموت، بالقَدر نفسه الذي لا يمكن فيه لأيِّ إنسانٍ يعيش خارج غزة أن يقارن وضعه بأوضاع أهلها، لا الآن ولا في أي وقت سابق.

قتلت "إسرائيل" مهنّد أيضاً بعد أن سدّت في وجهه كل الآفاق
 

قتلت "إسرائيل" مهنّد يونس أيضاً، بعد أن سدّت في وجهه كل الآفاق. هو ضحية أخرى من ضحاياها غير المحدودين، وإن فعلت ذلك معه بطريقة غير مباشرة هذه المرة، بعد أن نجا من قتلها المباشر منذ أن وُلِد في القطاع المحتلّ سنة 1994 حتى تحريره منها سنة 2005. كما نجا من حروبها عليه في الأعوام 2006 و2008 و2012 و2014. أيُّ حياةٍ هي هذه؟ حياة تشتمل على حروب مدمّرة، وهُدَن قلقة تجرى فيها إعادة إعمار ما سيدمّره العدوان التالي! هل كان مهنّد لينجو من الحروب الأخرى التي اندلعت بعد موته؟ 

ألم يكن ليُقصف في هذه الحرب الأشرس من كل ما سبقها فيما هو جالس إلى طاولته، يكتب قصصاً من وحي العدوان وفقدان الأطفال لأهلهم أو حياتهم؟ واستمراراً لسلسة الافتراضات، التي يمكن أن تكون مفيدة لنا في فهم ذلك الشاب الوديع والحساس؛ لو أنّه نجا من هذه الحرب وبلغ إحدى الدول الأوروبية، عبر منحة أدبية مثلاً، ليكتب فيها بكل هدوء وسلام، هل كان مصيره ليكون أفضل من مصير عدنية شبلي؟ أم أنّ إبداعه سيُقابل بدوره بالحجب والإنكار، لأنّه يفضح "إنسانية" من اغتصب أرضه، كما اغتصب حياة وكرامة من يعيشون فوقها؟

* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون