قبل فترة، وَجّهت وزارة الثقافة "تعليمة وزارية" إلى مدراء "المكتبات الرئيسية للمُطالَعة العمومية" في جميع الولايات الجزائرية، عن طريق مدراء الثقافة الولائيّين، تُعلمهم فيها بإطلاق "تظاهرة فكرية وطنية" جديدة ابتداءً من الأوّل من تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري، وتطلب منهم المشاركة فيها، من خلال إعداد برنامج ثقافي تحتضنه كلٌّ مكتبة من المكتبات الموزَّعة على ولايات البلاد الثماني والخمسين.
اسمُ التظاهرة هو "منتدى الكِتاب". وبحسب بيان للوزارة، فإنّها تشمل "قراءات ونقاشات حول إصدارات محلّية ووطنية، ومعارض للكتب، وجلسات بيع بالتوقيع، وبرامج إذاعية حول موضوعات معرفية، وإلقاءات شعرية ومسابقات في القراءة والمطالعة"، وذلك ضمن "سياسة القطاع الرامية إلى ترقية المقروئية، والإسهام في التعريف بالمؤلّفين الجزائريّين، وتثمين مؤلَّفاتهم وكتاباتهم الأدبية والفكرية والعلمية".
وقبل يومَين من موعد الافتتاح، نشرَت الوزارة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، برنامجاً تفصيليّاً للتظاهرة مؤلَّفاً من سبعين صفحة، يتضمّن مواعيد الأنشطة الثقافية وأمكنة إقامتها والمشاركين فيها، مع وجودِ تفاوت بين ما أعدّته كلُّ مكتبة وأُخرى؛ فبينما تتواصل الأنشطة في بعضها بشكلٍ متقطّع إلى نهاية الشهر الجاري، اكتفى بعضُها الآخر بيوم واحد.
أسئلةٌ جدّية عن مدى كفاءة القائمين على وزارة الثقافة
وكان واضحاً أنّ البرنامج برُمّته أُعِدّ على عجلةٍ ودون اجتهاد يُذكَر؛ وهو ما نلمسه في طبيعة الفعاليات التي لا تخرج غالباً عن المعارض المحلّية والتكريمات والقراءات الشعرية وجلسات توقيع الكُتب، ومن دون ذِكر المشاركين في معظم الأحيان؛ ففي الخانة المخصَّصة للمشاركين، تتكرَّر بشكل لافت عبارة "كتّاب وأدباء محلّيين" (كتّابٌ وأدباء محلّيون)، بما يشي بعدم وجود أسماء محدَّدة في أذهان القائمين على تلك الفعاليات، وبأنّ هذه ستُقام بمن كان متوفّراً من كتّاب وأكاديميّين يجري الاتّصال بهم في ربع الساعة الأخير.
في الخانة نفسها، نقرأ عبارات مثل: "مثقَّفين المنطقة ودكاترة وأدباء وشعراء والأسرة الإعلامية ومنخرطي المكتبة" (مثقّفو المنطقة...)، و"مثقّفين الأسرة الأدبية" (مثقّفو الأسرة الأدبية)؛ وهذه الركاكة والأخطاء اللغوية الفادحة، التي تُضاف إلى فقر المضامين المقترَحة، تطرح سؤالاً جدّياً، ليس فقط عن مدى كفاءة القائمين على تسيير الشؤون الثقافية المحلّية، وإنّما أيضاً عن كفاءة القائمين على المؤسَّسة المركزية (وزارة الثقافة) التي اطّلعت على البرامج المقترحة ووافقت عليها، ثمّ صاغتها في برنامج عامّ ودفعت به إلى النشر.
هذه الوزارة نفسُها هي التي ستُخبرنا، على لسان الوزيرة صورية مُولُوجي خلال افتتاحها التظاهرة الأحد الماضي بالجزائر العاصمة، بأنّ "منتدى الكِتاب" سيعمل على "تفعيل إستراتيجية النهوض بالكِتاب والقراءة في الجزائر، مع مراجعة آليات نشاطها وتفعيل برامجها بشكل يستجيب أكثر لتطلُّعات المُواطن الجزائري"، وبأنّه سيكون "فضاءً للحوار والنقاش والنقد"، و"سيخلق الحالة الثقافية الجيّدة والمؤسِّسة لميلاد المواهب، مع استقطاب المجتمع المدني الذي يقوم بالدور الاجتماعي كي تُصبح القراءة سلوكاً يومياً لأبنائنا وللناشئة من أجل تحصيل علمي ممتاز أوّلاً، ومن أجل اكتشاف المواهب الجديدة، دون إهمال الاستثمار الناجع في القراءة الرقمية والمصادر التكنولوجية".
يعمد كلُّ وزير إلى تدوير الأفكار القديمة بأسماء جديدة
وهذا الكلام "الكبير" و"الجميل" يُمكن أن نعتبره مجرَّد حشو "(لزوم الكلمات الافتتاحية)، وأن نمرّ به من دون أن نأخذه على محمل الجد، إذا لاحظنا أوّلاً أنّه لا يتناسب مع طبيعة الفعاليات الثقافية المتواضعة في العاصمة والولايات السبعة والخمسين الأُخرى، وإذا شعرنا ثانياً أنّه مرّ بنا من قبل؛ فالعبارات الجاهزة من قَبيل "إستراتيجية النهوض بالكِتاب والقراءة في الجزائر" و"الاستجابة لتطلُّعات المُواطن" و"الاستثمار الناجع في القراءة الرقمية والمصادر التكنولوجية" هو كلامٌ يُكرّره الوزراء المتعاقبون على "قصر هضبة القُبّة" (مبنى الوزارة) دون أن يكون له أيُّ أثر له على الواقع.
سمعنا هذا الكلام، مثلاً، حين أعلنت وزيرة الثقافة السابقة مليكة بن دودة، في مثل هذه الأيّام قبل ثلاث سنوات، ما سمّته "دخولاً ثقافياً"؛ وهي تظاهرة من سبعة أيّام تضمّنت ندواتٍ وأنشطةً أدبية ومسرحية وموسيقية وتشكيلية، قالت إنّها ستكون بمثابة "طريقٍ للدخول الأدبي المفقود في الجزائر، وفرصة لتقريب الشأن الثقافي مِن الجميع، وجعلِه حالةً منسجمةً في الفضاء العمومي". حينها، كتبنا في هذه المساحة، بأنّ كلَّ ذلك لن تُحقّقه تظاهرةٌ تُقام في بضعة أيّام، وقد عجزت عنه تظاهرات ثقافية كبيرة أُقيمت على مدار سنوات وخُصّصت لها موازنات ضخمة، وبأنّ الأمر أشبهُ بفرض "دخولٍ ثقافي" متخيَّل في مشهدٍ مغلَق تعيش جميعُ قطاعاته، وفي مقدّمتها قطاع الكتاب، اختلالات لا حصر لها، وإنّه إذا كان لا بُدّ من "دخول أدبي"، فالأحرى أن يُبادر الناشرون والفاعلون الثقافيّون إليه، وأن تعمل وزارة الثقافة على تهيئة المناخ لإنجاحه، لا ان تُحاول فرضه بـ"قرار رسمي".
لا تزال هذه الملاحظات صالحةً إلى اليوم، بما أنّ شيئاً لم يتغيّر إلى الأحسن في السنوات الثلاث الماضية (وعلى الأرجح أنّه لن يتغيَّر في الأفق المنظور). لكنّنا سنُضيف ملاحظَة أُخرى قد تكون مفيدةً في التنبيه إلى حالة العجز المزمنة في "العقل" المُسيّر للشأن الثقافي؛ وهي أنّ "منتدى الكِتاب" ليس في النهاية سوى تسميةٍ أُخرى لما سُمّي "دخولاً ثقافياً" في أيّام مليكة بن دودة. الفكرةُ (المستنسَخة أساساً من التقليد الفرنسي المعروف) هي نفسُها، والتوقيتُ هو نفسه أيضاً، والأنشطة والأسماء هي نفسها غالباً.
هكذا، وبدل اجتراح أفكار جديدة وخلّاقة، يُعمد إلى تدوير الأفكار القديمة بأسماء جديدة؛ إذ يحرص كلُّ وزير على القطع مع إرث سابقِيه، بإيجابياته وسلبياته، والظهور بمظهر مَن له شيءٌ جديد يُقدّمه للقطاع الثقافي، حتّى وإنْ احتفظ بالأشياء القديمة واكتفى بتغيير تسمياتها.
وعلى ذكر الأنشطة، دعونا نُلقي نظرةً على الفعالية الافتتاحية لـ "منتدى الكِتاب"، التي احتضنتها "فندق الأوراسي" (فندق وليس مؤسَّسة ثقافية) بالجزائر العاصمة الأحد الماضي، وسْط حضور كبير من الشخصيات الرسمية: كلمة افتتاحية، تكريم ناقد جزائري، تكريم عددٍ من الكتّاب الجزائريّين الذين فازوا بجزائر عربية وأجنبية، قراءات لنصوص عدد من الكتّاب الجزائريّين الراحلين. من سيُصدّق أن هذه الأنشطة التي يُفترض أن تقوم بها جمعية ثقافية صغيرة هو ما سيُحقّق "نهوضاً بالكِتاب والقراءة في الجزائر"؟
وأخيراً: هل تملك وزارة الثقافة ما تُقدّمه غير الاحتفالات والتكريمات؟ ولماذا تُكرّم أسماء فازت بجوائز خارج الجزائر أو تشعر أنّ من واجباتها تكريمها أساساً؟ فاز هؤلاء - وهُم كتّابٌ بمستويات متفاوتة جدّاً - مثلما فاز غيرهُم بجوائز محلّية. فلماذا لا تُفكّر الوزارة، مثلاً، في تكريمهم؟ أمّ أنّها تعتقد بأنّ الكاتب الذي يستحقّ التكريم هو فقط ذلك الحاصل على جائزة عربية أو أجنبية أيّاً كانت. أليس ذلك اعترافاً ضمنيا بأنّ الجوائز الأدبية الوطنية، وكثيرُها رسمّيٌ، بلا قيمة تُذكَر؟