رواية الكاتبة الألمانية سيبلي ليتشاروف (1954) "من الأعلى" روايةٌ في تمجيد الحياة، ولو أنّها سردٌ قادمٌ من عالم الموت، أو لأنّها كذلك. فالراوي روح أستاذ جامعي تطوف فوق برلين وتستعيد ذكريات المادّة المفقودة التي كانت تتشكّل منها يوماً. الرواية استعادة لذكريات عاشتها الروح عندما كانت مصاغةً من اللحم والدم. وهذه حالٌ يلاحقها السرد ويصنعها، فهي مفقودة ومتعذِّرة واقعيّاً.
يمكن أن تكون الرواية، الصادرة حديثاً عن "دار فواصل" بترجمة حسن صقر عن الألمانية، سرديةً أدبية تقابِل فيلم المخرج الألماني فيم فيندرز "أجنحة الرغبة" (1987). لكن الراوي هنا لا يمتلك، وهو يتجوّل فوق برلين، طموحَ الملاك في أن يصيرَ بشراً، وإنّما يتجوّل فوق برلين، وهو يعي خسارته تلك الفرصة بأن يعود بشراً.
يضفي ذلك الوعي الذي تمتلكه روح الميت باستحالة العودة على الرواية أملاً عاجزاً. أملاً يكاد يكون رسوليّاً؛ إذ يدعو الراوي بشراً فانين، بدءاً من تجربته وترجمةً لها، كي يستهلكوا الحياة. كي يستهلكوا فرصة أنّهم أحياء ومصنوعون من مادّة يمكنها أن تعبّر عن الرفض والقبول والامتلاء.
السارد في الرواية إنسانٌ فانٍ ينقل لنا خلاصة عيشه بيننا
على خلاف الفيلم إذن، السارد إنسانٌ فانٍ، ينقلُ لنا، نحنُ البشر المقبلين على الفناء، خلاصةَ عيشه بيننا. وفي نقل الخلاصة، شيءٌ من الدعوة إلى التجاوز، وكأنّما الميت يأمل أن يتجاوزه الأحياء، أن يعبروه فعلاً، وأن يُتيحوا له البقاء في الأعلى، في النسيان. حتّى أنّ موتَ الآخرين يخلق حاجة لدى الأحياء إلى تجاوزهم، ومنع الموتى من العودة إلّا في الذكرى. يَظهرُ الموتُ هنا تَغيُّراً في المادة، لا أكثر. فالشخصية تستمرّ بالشعور بما يحدث في حياة من تركتهم، في حياة أولئك الذين تخلّت عن رفقتهم من غير أن تتخلّى عن الشعور بهم.
يعيد الراوي إخراج ذكرياته من غير أن يترك ما يريد أو يحتاج أن يحيد عنه، لاعتبارات الحياة المختلفة في الماضي. فالوعي بالموت وحقيقته، يجعله شخصيةً لا تهرب من حقائق وجودها؛ أي غياب وجودها بالطريقة التي نألفها، كأنّما الموت حرّر صاحبه من هِبة أنّه إنسان جبان، فهو، بعد الموت، يعرف بخيانة زوجته له مع أعزّ أصدقائه، خيانة استمرّت لعامين. لا بل إنّ الزوجة والصديق والكلب، حيوانه المدلّل، هم الشخصيات الوحيدة في الرواية. إلى جانب الظهور المتكرّر لشخصية (ك) من رواية "المحاكمة" لكافكا. ومن غير جهد، يمكن للقارئ الاستنتاج أنّ الشخصيات التي تهتم الروح الميتة بمتابعتها هي شخصيات صديقة، وفي الوقت نفسه غادرة. الانتقال من مادة صنعتها الحياة إلى مادّة مصاغة بالموت، جعلت روح أستاذ الفلسفة تتصالح مع غِياب القيم، أو انحلالها معاً، وارتدائها لبوس بعضها، حيثُ يصعب فصم الصداقة عن الغدر، وكأنّما كلّ صداقة مغدورة بذاتها.
في الأحوال جميعها، لا يوجد في الرواية الكثير للحديث عنه في ما يخصّ شخصياتها. و"من الأعلى" ليست رواية شخصيات، بقدر ما تقصُّ حكايةَ الإنسان عبر الفلسفة وباستخدامها. كما تمكن قراءتها عبر المفاهيم التي يؤكّدها أستاذ الفلسفة بين فصلٍ وآخر، إنّها حكاية البشر، رحلتهم الشاقة، توقهم إلى الخلاص، ولو أنّه خلاص حزين، يجيء بالحزن، ويتحقّق من خلال الحزن، بعد انكشاف الخديعة التي قد تنطوي عليها حياة البشر.
وذلك الإنسان العائد من الخلاص، يعود كي يخبرنا أنّ الخلاص موجودٌ في حياتنا، حيثُ نعيش، نتنفّس ونحبّ ونُهجَر. وهو إذ يقود صراعه مع الذكريات، المؤلمة منها والجميلة، بنبرة متصالحة مع تجربته، يشيرُ إلى ارتباط الخلاص بمدى قدرتنا على التعامل مع ذكرياتنا، بمدى قدرتنا على انتخابها، وعلى مسامحة النفس والآخرين إزاء التجربة التي يصنعها أحدنا مع مَن يعيشون معه.
لا تدور الرواية في عالم البشر وعلاقاتهم فقط، إنّما تمتدّ كي تشمل العناصر. فالراوي روحٌ تلاءمت مع الكون، تتحدّث لغته وتفهمها. الروح جزيئة من جزيئات الكون، لا تتحدّث حديث البشر ولا تقول بمنطق الأحياء. حتى أنّ الراوي ينظر إلى الحيوان نظرته إلى البشر. أكثر من ذلك، عندما ينتبه إلى كونه بشراً، ينتبه بالمثل إلى أنّه إنسان مُسْتَبْعَد، تُرِكَ وحيداً وسط ذكرياتٍ شاركه الآخرون بصناعتها يوماً. وعندما تجري أحداثٌ أمامه، أو بمعنى أدق تحته (فهو ينظرُ مِنَ الأعلى إلى حياته من دونه)، لا يجد مسوّغاً كي يتدخّل في الأحاديث التي تدور عنه بعد موته، بسبب إدراكه ألّا أحد سوف يصغي له. تحرّك هذه الروح المصنوعة من مادةٍ أرقّ من الورق حساسيّة تسمو فوق العالم، تترفّع عن العالم. تعبره، وقد فهمته. تعبره كي تغادره، وكي لا تتوق إليهِ من جديد. إذ تأخذ الرواية هذا المسار في جميع فصولها، ويبحث ذلك العائد مِنَ النسيان، مِنَ النهاية، عن موطئٍ محتمل في الماضي، كي يغادره بصورة مؤكَّدة.
يعود البطل إلى عالمه ليواجه حقيقة أنّه لم يعرف الحبّ
لا تحمل الرواية نهايةً. بالأحرى إنّها حكاية تحتاج إلى بداية، تبحث عن بداية، تنادي البداية. لا ننسى أنّها حكاية إنسانٍ ميت، لن يحدث في حياته/ موتهِ شيءٌ مباغت. ويعيد الراوي تأليف الذكريات بصورة تُصالِحُه مع حتمية غيابه. إذ تعوم روحه المعذّبة متفانيةً ووحيدةً في ذكرياتٍ عدوانية، ذكريات شرسة مُحطِّمَة، لا يمكن لها أن تَبني نهايةً أنصع من الموت وعدم العودة. إذ يواجه أستاذ الفلسفة ذكرياته السيئة مع الجميع، حتّى مع والديه، إنّه شخص يتوق إلى الحبّ، حتّى بعد موتهِ استمرَّ يتوق إلى الحبّ. وليس من المبالغة القول إنّه عاد إلى عالمهِ القديم بحثاً عن حبّ لم يجده، لم يُتَح له أن يجده بسبب ضغطِ الحياة وغفلتها. إنّه يعود كي يواجه حقيقة أنّه لم يعرف الحُبّ، لم يكن محبوباً.
بهذه الصورة ليس لروايةٍ تقصّ حكاية الإنسان أن تنتهي بأفضلَ من فصلٍ عنوانه "عبرة أيّ حكاية في خاتمتها"، وكأنّما عبرة كلّ إنسان بموته النهائي، لا رحيل جسده فقط. أيضاً بموته في الذكرى. في النهاية، إنّها رواية تبحث عن عبرة، وتبحث في العِبرة. وكأنّما تلك الروح الثرثارة قَسرت نفسها على وضع حدٍّ لأقوالها. والرواية عدا عن دفعها القارئ إلى تأمّلات فلسفيّة ووجدانية تعيدُ تعريف المعنى من الوجود، من ثقل الوجود وخفّة مغادرته، إلّا أنّها مثالٌ لما يمكن أن تضيفه الفلسفة إلى فنّ الرواية. فهي تنطلق من الفلسفة، لا بحثاً عن معنى وجود الإنسان، وسرّ سعيه إلى أن يكون خالداً، وإنّما تنطلق من فلسفة فعله اليومي بما يكتنفه من خِداع وضجيج واستثارة للممكن في حقول اللذّة والمعرفة وفي صنوف الخيانة؛ لا خيانة الأشخاص لبعضهم وطبيعة علاقاتهم فقط، وإنّما لاحقاً بعد الموت، خيانة المادّة للإنسان، وهي خيانة ليس للبشر أن يفعلوا شيئاً حيالها.
هكذا، وعلى الرغم من الكلمات التي تكتبها روح أكثر رقّةً من الورق، روح مصنوعة من الهواء، حبيسة في الهواء، وتخشى أن تكون ثقيلةً على الهواء، إلّا أنّ الرواية، نصٌ ينطلق من الصمت ويعود إلى الصمت. وليس من المبالغة القول، إنّها مكتوبة بالصمت، بأسى غياب الحبّ أو الامتلاء بالحبّ من غير وجود مَن نحبّهم، ومن هم جديرون بأن يُحبَّوا. كما يبحث الراوي في رحلته عن شيء يلتصق بالصمت، ويدعوه "الهدوء الداخلي". لكن ما طبيعة الهدوء الداخلي لإنسان ميت؟
صحيحٌ أنّ الإجابة تمتدُّ على صفحات الرواية، إلا أنّها توجد في الذكريات، في ذكريات أيٍّ منّا، في تشكيلها وطريقة استعادتها، وفي ملء فراغاتها وتقبّل نقائصها، وفي التصالح مع مصائرنا.
* روائي من سورية