خارج غزّة، نحن جميعاً متفرّجون. نُشاهد ما تنقله الشاشات، ونتناقل الكلمات الأخيرة لأطفال غادروا عالمنا بسبب جرائم الاحتلال، أو الكلمات الأُولى لأطفالٍ بعد أن نجوا من القصف الوحشي، وقد اكتشفوا استشهاد ذويهم، أو نراهم يشكرون مسعفيهم. هذه أحوالنا في هذه الأيام المرّة والقاسية التي نتداولها والتي تُجلّلنا بالعجز والعار والغضب. وما تفعله الهمجية الإسرائيلية أنّها تصنع لنا ذاكرة جماعية عن صورة التوحّش التي لا يمكن نسيانها، ذاكرة تعيق مسألة التطبيع الذي ينشده الاحتلال.
في الحالة العادية، تتشكّل الذاكرة الجماعية من مجموعة كبيرة من السرديات، بدءاً من حكايات الجدّات إلى الكتب والروايات والأشعار والفنون البصرية، وكلّ ما يجد طريقه إلى الذاكرة ويُعرِّف المرء ضمن المجموعة التي ينتمي إليها. لكن عند الحديث عن القضية الفلسطينية، فالذاكرة الجماعية التي تغذّيها الفنون والسرديات المختلفة تتخم بموتٍ حيّ في لحظات الغطرسة الإسرائيلية كالتي نعيشها.
"إسرائيل" تقول لنا، وهي تصنع بعنفها الوحشي ذاكرتنا الجماعية: لا تنسوا. ولو أنّ آفة ثقافتكم النسيان، إلا أنّني هنا كي أذكّركم بعارٍ فرضتُه عليكم، وهو عار وجودي. "إسرائيل"، بجرائمها، تكتب جانباً من ذاكرتنا الجماعية، تكتبه بصيغٍ حديَّة من توسّلات الأطفال، وعدم إدراكهم للموت الذي يبني عالمهم الجديد على حطام عالم سبق القصف وقتل الآباء والأمّهات.
تصنع البربرية الإسرائيلية ذاكرة عن التوحّش لا يمكن نسيانها
ومع محاولات الأصوات الحرّة حول العالم لإيصال صرخة الألم الفلسطينية، وصوت الحقّ الفلسطيني، ومع المظاهرات التي تندّد بالعدوان الإسرائيلي، لا يمكن للمرء أن يتجاهل سلوك عموم المؤسّسة الثقافية الغربية بحجب الصوت الفلسطيني. وهو سلوك يدفعنا إلى إدراك أهمّية أن يكون لنا صوتنا، بما تمثّله حرارة اللحظة من همجية العدوان، وصمم عموم الغرب الذي يصدّر ثقافة الإلغاء، ويقيّد الصوت الفلسطيني، قائلاً لنا: إنَّ ثقافتكم وأفكاركم ورواياتكم خاضعة للنظرة الإسرائيلية التي تقتلكم.
الأمر الخطير الذي أظهره العدوان على غزّة أنَّ عموم الغرب الذي اعتاد تصدير ثقافة قبول الآخر، ودعم الديمقراطيات المزعوم في المنطقة العربية؛ صدّر لنا أخيراً أعمق نظرياته، وهي نظرية إلغاء الآخر، وحرمان الآخر/ نحن، الحقَّ في القول، والحقَّ في تشكيل ذاكرة جماعية تصنعها الفنون والسرديات المختلفة، ومن ثمَّ حقّنا في تصدير سرديتنا إلى الآخر/ هُم. هذه سابقة؛ فالقيَم التي اعتدنا إسنادها للغرب، نجد أنفسنا نستورد قيماً تنافيها؛ قيم المنع، والرقابة، واحتكار وجه واحد للرواية، ونفي حقّ أصحاب الأرض التعبيرَ عن مواقفهم، وتبنّي الأكاذيب الإسرائيلية.
في سياق آخر مشابه، أستعيد إحدى مقولات الرواية الأخيرة لأمبرتو إيكو "العدد صفر"؛ مقولةٌ مفادها أنّ الفرق بين بلدان "العالم المتحضّر" وبلدان "العالم الثالث"، هو كون الفساد مرئياً في "العالم الثالث"، لكنه متستّرٌ ويحدث في مستويات أعلى، وأكثر ذكاءً في "العالم المتحضّر". إذاً، الفرق -بحسب إيكو- بين العالمين محض شكلاني، وجوهر الأنظمة واحد.
نرى صور الإلغاء في بلدان "العالم الثالث" في نفي أحدهم، في قمع مظاهرة، في سجن أحدهم، وفي الحالات الشديدة؛ قتله. هذا واقعنا المذموم والمدان، والذي يعرِّفنا الغرب فقط من خلاله، ولا يرانا خارجه. لكن بالنظر إلى نوعية الإلغاء الذي تصدّره أوروبا -بما تمثّله ثقافياً- وهي تقيّد أو تلغي الفعاليات الفلسطينية، فهو إلغاء يحاول أن يملي ذاكرة ملفَّقة وكاذبة على أصحاب الأرض، إملاء ينتظر ويطلب منهم تبنّي رواية من يقصفهم، وكأنّما المطلوب من الفلسطينيّين أن يصبحوا ضدّ أنفسهم، أن يقتلوا أنفسهم، أن يبلعوا ألسنتهم إلى أن يموتوا اختناقاً. وهذا لن يحدث، لأنّ "إسرائيل" تقوم بدورها المعهود وتُثقل أيامنا بدم الأطفال ونداءاتهم البريئة. "إسرائيل" تمنع عنّا النسان.
* روائي من سورية