في "جامعة ييل" بمدينة نيو هيفن الأميركية، والتي تأسّست عام 1701 وتُعتبر الآن من أفضل الجامعات في العالم، يوجد "متحف الفنّ" الذي يشمل عدّة طوابق وأجنحة متخصّصة (من حضارات أميركا الوسطى والجنوبية وأوروبا وآسيا وأفريقيا)، تتضمّن لُقىً أثرية وتماثيل ولوحات جدارية وفسيفسائية ومخطوطات أصلية، وصلت بواسطة البعثات الاستكشافية، أو تبرّع بها أفرادٌ جابوا العالم.
يُمكن القول إنّ الزائر ينسى نفسه في مثل هذا المبنى لكثرة ما يراه من مفاجآت، وهذا ما جرى معي عندما شاهدتُ هناك لوحةً فسيفسائية كبيرة من مدينة جرش الأثرية؛ ومخطوطات شرقية نفيسة مُزيَّنة بلوحات نادرة رأيتُها لأوّل مرّة، تتناول شخصيات مقدَّسة، وغير مقدّسة في التاريخ الإسلامي؛ ومنها لوحةٌ تمثّل النبي محمّد في غزوة خيبر، وثانية في عقده لزواج ابنته فاطمة من الإمام علي بن أبي طالب، وثالثةٌ تمثّل فوزه في المغالبة على ركانة بن زيد، وأُخرى لزوجته السيّدة عائشة في معركة الجَمل، ولوحة لمَن آل إليه الحُكم بعد ذلك، أي معاوية بن أبي سفيان، الذي كنّا ننتظر رؤيته في مسلسل رمضاني، وغيرها من الشخصيات. ولكنَّ وجود هذه المجموعة النفيسة، يطرح من جديد السؤال حول انبعاث هذا الفنّ، واستلهام أقدس الشخصيات في الإسلام لتزيين الكتب التي تتناول التاريخ الإسلامي.
تحريم الصوَر وحرب الأيقونات
بالمقارنة مع القرآن، تحفل الأحاديث النبوية بموقف صارم للنبي محمّد من وجود الصُّور، سواء معلّقة على الجُدران أو على الوسائد كما كان شائعاً، ومن ذلك قولُه عندما دعاه ابنُ عمِّه، علي بن أبي طالب، إلى بيته: "إنّ في البيت ستراً فيه تصاوير، وإنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تصاوير"، وقولُه عندما وقف عند باب بيت زوجته عائشة، ولم يدخله لأنّ فيه صوراً: "إنّ أصحاب هذه الصور يُعذَّبون يوم القيامة". ونجد أنّ مثل هذا الموقف استمرَّ في عهد الخُلفاء الراشدين على الأقلّ، فالخليفة عمر حين دخل القدس ودُعي إلى بيت، قال: "إنّا لا ندخل كنائسكم من أجل الصوَر التي فيها"، بينما حفلت قصور الأمويين في الشام ("قصر عمرة" وغيره)، باللوحات الفنّية على الجدران التي تُمثّل الوجوه الإنسانية أيضاً.
لوحات تمثّل أحداثاً من سيرة النبي محمّد والإسلام المُبكّر
ويبدو أنّ الأمر ارتبط في البداية بقطْع الصلة مع التراث الوثني، ولكنّه تداخل، في ذلك الوقت أيضاً، مع ردّة فعل مسيحية مُضادّة لانتشار تصوير الشخصيات المقدّسة في "الأيقونات"، وتعليقها في الكنائس والبيوت لطلب البركة والشفاعة منها؛ فقد اندلعت "حرب الأيقونات الأُولى" (726 - 787م)، بعد أن أمر الإمبراطور البيزنطي ليو الثالث، بإزالة الأيقونات من الكنائس والأديرة، وصاحَبَت ذلك إزالة الأيقونات، وطمس اللوحات في الكنائس، واضطهاد أنصار الأيقونات، وهو ما استمرّ في "حرب الأيقونات الثانية" (814 - 842م)، في الوقت الذي عارضت فيه البابوبة ذلك، وهو ما تسبّب في مزيد من التمايُز بين الكنيسة الشرقية (الأرثوذكسية)، والكنيسة الغربية (الكاثوليكية).
الوجوه التي تعبّر عن هوية الرسّامين
مع انتشار المسيحية بين الشعوب السلافية في البلقان، والتنافُس بين القسطنطينية وروما على استقطابهم، ازدهَر الفنّ الديني الذي كان يقوم على أهمية الصورة والأيقونة في جذب المزيد من المؤمنين لهذه الكنيسة أو تلك. ومع هذا الازدهار، باتت – كما رأينا في مقالة سابقة – صورةُ المسيح والقدّيسين في اللوحات الجدارية، أو في الأيقونات، تتلوّن حسب المكان والرسّام الذي يقوم برسمها، حيث تبرز الملامح الشرقية في اللون وشكل الوجه ("متحف الأيقونات" في بيرات الألبانية: الوجه الأسمر للمسيح).
ويتكرّر هذا الأمر أيضاً في هذه اللوحات الموجودة في "متحف الفن" التابع لـ"جامعة ييل"؛ حيث إنّها تعود إلى رسّامين برزوا في الثقافة الجديدة التي ازدهرت بعد اعتناق المغول للإسلام، وتأسسيهم لعدّة دول في الهند وآسيا الوسطى تميّزت فيها العمارة والفنون، ومن ذلك تزيين كتب التاريخ باللوحات التي تُعبّر عن بعض الأحداث، وتجعل تلك الكتب مشوّقة للقراءة.
وفي الواقع، فإنّ هذه اللوحات المذكورة أعلاه عن الرسول وصحابته، وردت في إحدى النسخ المخطوطة لكتاب "مجمع التواريخ" التي نُسخت في هرات غربَي أفغانستان الحالية في نهاية الربع الأوّل من القرن الخامس عشر، أي حين كانت هرات عاصمة للإمبراطورية التي أسّسها تيمورلنك، وأصبحت تُعرف بلقب "جوهرة خراسان"؛ نظراً لاهتمام حكّامها بالعمارة والأدب والفنون.
كتاب "مجمع التواريخ" هو أحد مصادر تلك الرسومات
أمّا كتاب "مجمع التواريخ"، فقد ألّفه حافظ آبرو بطلب من شاه رخ ابن تيمورلنك على نمط كتاب "جامع التواريخ" لرشيد الدين فضل الله الهمذاني، الذي جمع بين رواية التاريخ الإسلامي وبين تزيين صفحات الكتاب بلوحات بديعة. وقد بقيت من نسخ كتاب الهمذاني واحدةٌ نفيسة تعود إلى عام 1314م، وهي محفوظة في "مكتبة جامعة أدنبرة" ببريطانيا، حيث توجد فيها خمس وعشرون لوحة يحضر النبي محمّد في خمس منها.
وعلى هذا الأساس، يكون قد مضت أكثر من مئة عام بين هذه النسخة وبين النسخة المذكورة من كتاب "مجمع التواريخ" لحافظ آبرو، والتي نُسخت في هرات عام 1425م، وانتقلت صفحات منها إلى بعض متاحف العالم نظراً لقيمتها الفنّية الفريدة، وخاصةً تلك التي يحضُر فيها النبي محمّد. ومن ذلك لدينا في "متحف متروبوليتان" بنيويورك صفحتان من هذا الكتاب فيهما لوحتان: الأُولى تمثّل بدء نزول الوحي في غار حِراء، والثانية للنبي مع صحبه في الطريق إلى مكّة.
أمّا المجموعة الموجودة في "متحف الفنون" بـ"جامعة ييل"، فهي تحتوي ثلاث لوحات يحضر فيها النبي: الأُولى على رأس الجيش على أبواب حصن خيبر، والثانية يقف فيها بين ابنته فاطمة على يمينه وابن عمّه علي على يساره، وهو يعقد بينهما الزواج. وبالمقارنة مع اللوحة الأولى، يلاحَظ أنّ النور يغطّي وجه النبي وابنته. أمّا اللوحة الثالثة، فهي تمثّل حدثاً معروفاً في السيرة النبوية، وهو المتعلّق بركانة بن زيد الذي كان من أشدّ رجالات قريش قوّةً. وعندما دعاه النبي إلى الإسلام، طلب من النبي أوّلاً أن يثبت نفسه بمعجزة، فطلب أوّلاً أن تنتقل شجرة من مكان إلى مكان، ثم طلب أن تنتقل نصف شجرة من مكانها إلى مكان آخر، ولمّا تحقّق ذلك عرض على النبي أن يتصارعا، وإذا تمكّن منه محمّد يعتنق الإسلام. ولذلك تُمثّل اللوحة النبي منتصراً وركانة مطروحاً على الأرض وفي طرفَي اللوحة الشجرتان. أمّا اللوحة الرابعة فتُمثّل السيّدة عائشة راكبةً على الهودج في معركة الجمَل مع وشاح أبيض يغطّي وجهها؛ في حين تمثّل اللوحة الخامسة الخليفة الجديد معاوية بن أبي سفيان بين مستشارِيه.
وفي كلّ هذه اللوحات، تبدو جميع الوجوه، باستثناء النبي، بالملامح المميّزة للوجوه المغولية المألوفة بعيونها الضيّقة وأنفها واستدارتها وشواربها المائلة، كأنها تُوحي بأنّ التاريخ الإسلامي أصبح يُعبّر عن شعب بعينه، وليس عن شعوب متنوّعة جمع بينها الإسلام. ولكنّ المُشترك هنا أنّ هذه الثقافة الفنّية الجديدة، في حدود ما نعرف، لم تلقَ معارضة من الفقهاء آنذاك، وهو ما جعلها تنتقل إلى مناطق مجاورة وتُنتج إبداعات جديدة عن حادثة الإسراء والمعراج، والتي ستُبرز أدباً متميّزاً عُرِف في الدولة العثمانية باسم "المعراجيات".
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري