منصور الهبر و"صراعه الحميم": اللوحة مِن ضدّها

23 مايو 2021
بلا عنوان، مواد مختلفة على ورق، 30 × 42 سم (من المعرض)
+ الخط -

النازل الدرجَ المؤدّي إلى تحت، إلى قاعة معرض منصور الهبر (1970)، يتفرّس في اللوحات المعلَّقة عن يمينه، ولأوّل وهلة يحتمل أن يكون وراء اللوحة ذات الهندسة اللونية الموزونة، والتي تتداخل بقعها وخطوطها في بناء بارز منظوم، يحتمل المتفرّج أن يكون وراء هذا التجريد، كما نفهم بعد ذلك، مشهدٌ ما، وقد يحسَب أنّه أمام ما يتراءى أنّه منظر، ألوانه القوية والمتفجّرة تردّه إلى التعبيرية، وليس هذا غريباً فلوحات الهبر التي سبقت معرض اليوم لوحاتٌ تشخيصية، تمتّ هندستها ونفسها السردي وملوّناتها ونزوعها الساخر إلى تعبيرية خاصة. اليوم، منصور الهبر، يعالج التجريد، لكنّه يعالجه بتقنيات يستمدّها من التعبيرية، بحيث يضلّ المتفرّج حائراً بين اللوحة وما وراءها، بين اللوحة الظاهرة واللوحة المتوارية.

إذا أكمل النازل إلى القاعة حيث معرض "صراع حميم" (أُقيم بين 24 إبريل/ نيسان الماضي و8 مايو/ أيار الجاري في "The LT Gallery" ببيروت)، سيجد نفسه أمام تجارب صيغت بعناية. الفنان الذي أمضى عمراً في صناعة لوحة مبنية، يدخل إلى التجريد بذات الحرص وذات التطلّب والاجتهاد. اللوحة التجريدية ذاتها، لوحة البقع المتوازنة التي تنتقل من بقعة إلى أُخرى عارمة باللون كثيفة ومشرقة في آن معاً، غنائية ومنمنمة ومتفجّرة في ذات الوقت، هي هذا.

الفنان ينضد بقعه عبر أُطرٍ لونية ساخنة، لكنه ينوّع فيها إلى حد كبير. نجد البقع الدامغة تصل إلى فضاءات مختلفة. من جانب نصل إلى ما يشبه أن يكون تنقيطاً على بقعٍ ذات جانبية لافتة، فهي تحتمل أن تكون إلى جانب اللوحة وفي وسطها هوامش وحواشٍ، فيما تتحوّل أُخرى إلى فضاءات عارية، يُحتمل أن تكون حواشي فارغة، وأحياناً يتمدّد هذا الفراغ في أسفل اللوحة ويحيلها إلى فضاء صامت وإلى نوع من عراء لوني، ليس الأبيض فقط مادته، ولكنه أحياناً اللا لون نفسه، الفراغ وقد صار لوناً أو صار صمتاً. لكنّ بناء اللوحة يستوقفنا أمام الأُطر التي تبدو وكأنها فجوات في اللوحة، إنها في الغالب سوداء وتكاد تكون حول البقع حوافي تلوّح بالهاوية وبالعدم. ثم إن الفنان لا يسلّم دائماً بالأشكال المستطيلة أو المربعة، إنه أحياناً كثيرة يطوي الجوانب ويقصها ويلويها، يفتح فيها ثغرات للفراغ واللا شيء.

تتحوّل الأوراق إلى ملصقات شبحية ضائعة بين اللون والمادة

واحدة من لوحات المعرض تكاد تكون بلا جوانب مستوية أو موزونة، اللوحة هكذا تذهب ملتوية غير مستوية إلى الأسفل، أو تشكّل بحدّ ذاتها من تصميمها وجوانبها المتفاوتة، ما يمكن أن يضاف إلى اللوحة، التي لا تبدو فقط بملونتها وخطوطها ولكن أيضاً بصفحتها وإنشائها. إنها جرأة على كل شيء، على الملونة وعلى التصميم وعلى شكل اللوحة ذاتها. جرأة لكنّها لا تذهب في الاعتباط، ولا تصل إلى الفوضى، ولا تجازف بالارتجال. لسنا أبداً أمام دادا ولا أمام البوب ولا أمام الإنشاءات. نحن أمام اللوحة كما نعرف اللوحة بل بما تتطلبه اللوحة من بناء ومن حِرفة ومن انتظام داخلي، بل بما تتطلّبه اللوحة من خبرة بالشكل ومن تدقيق في البناء ومن منظومة لونية وهندسية. أي أنّ الجرأة المحسوبة بالعناية والظاهرة بقدر ما هي محسوبة، لا تخرق انتظام الشكل بل تعيد بناءه. هكذا نفهم أنَّ ما وراء اللوحة هو هذه الحرفة الموزونة، هو هذا الاستواء وذلك الإيقاع، وأنَّ ما يحمل على تصوّر مشهد وراء التجريد ناتج عن إرث اللوحة وقوة هذا الإرث، بل وتاريخيته.

غير أنّ حديثنا مع المصوّر الهبر قادر أيضاً على أن يجعل زيارتنا للّوحات والمعرض أكثر ثراءً. نفهم من المصوّر أنّه يعتمد في جانب كبير من اللوحة، وفي تبقيعها، على ما يسميه كولاجاً، أو على حد تعبيره كولاجاً مضاداً، فهذه البقع المتفجّرة أحياناً بألوانها، والمخربشة أحياناً، والمنقطة في أحيانٍ أُخرى، هذه البقع بحواشيها وهوامشها، هي في الواقع أوراق ملصقة، أوراق وليست ككل الأوراق، وإلصاق ليس كبقية الإلصاقات. أوراق ملوّنة في الأصل تُنقع في الماء وقتاً، تنتقل بعده إلى اللوحة، وقد تلعب بها الأظافر وتضاف إليها خربشات.

منصور الهبر - القسم الثقافي
"جحيم دانتي"، مواد مختلفة على قماش، 116 × 89 سم (من المعرض)

هذه الكولاجات المقتولة والمتحوّلة بقعاً وألواناً كثيفة أو منقطة أو مخربشة، هي مع الألوان التي تحاصرها وتفصل ما بينها، هي جسم اللوحة وهندستها ونسقها. هكذا تتحوّل الأوراق الملصقة إلى لون عارم في الغالب، وإلى أطياف أوراق وملصقات شبحية ضائعة بين اللون والمادة. إنها أشياء على اللوحة بدون أن تكون أشياء، ذكرى أوراق وذكرى ألوان، وهي مع هذا الأصل المتواري، ومع الشكل غير المستقيم والمضاف إلى اللوحة، لا تزال تذكّر بإرث اللوحة بل وبالمشهد المتواري خلفها.

هكذا يتحوّل الكولاج إلى ضدّه تقريباً، يتحوّل التجريد نفسه إلى غيره، تتحوّل اللعبة إلى استواء وتشكيل وبناء. توجد اللوحة، بل ويوجد المشهد، بمواد ضد اللوحة وضد البناء. ما يصنعه الهبر وما يشتغل عليه هو في النهاية الأسلوب، هذا الأسلوب تنضاف إليه كلُّ الابتكارات وكلُّ الاعتراضات وكلُّ الانتهاكات، تنضاف إليه لتزيد من صلابته وميزانه، لتملك، كلّما زاد اللعب، إيقاعها وانتظامها. هذا الأسلوب هو نصاب اللوحة، لكنّه في الوقت نفسه إيحاء بتلك اللوحة التي تتوارى خلفها.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون