روايةً بعد أخرى تبني الروائية المصرية منصورة عز الدين (1976) عالمها الذي يقع على الحواف، فهو عالمٌ مُلتبسٌ بصورةٍ ليس مؤكداً معها إن كانت الشخصيات تخرج من الأحلام، أو أنّها شخصيات واقعيّة تعيشُ أحلامها. منذ روايتها الأولى "متاهة مريم" (2004) وفي كتبها التالية: "أخيلة الظلّ" (2017) و"مأوى الغياب" (2018)، وفي روايتها الجديدة "أطلس الخفاء" الصادرة حديثاً عن "دار الشروق"، تراهن الكاتبة على قوة الفنّ على الإيحاء. وعبر هذه الخاصيّة للفنّ، تشيرُ إلى أفرادٍ يشعرون بالاغتراب. فأبطالها يشبهون أطيافاً لا تتوقف عن الترحال في عوالم عديدة.
تولي عز الدين، في كتاباتها بصورة عامة، اهتماماً خاصّاً بعالمَي الطفولة والأحلام، وهما مرآتان تقومان على التأويل. ذلك لأنّ الطفولة بعيدة، ويصعب تذكّر تفاصيلها، كما الأحلام. ولا يكاد المرء يتذكّر سوى إشارات خافتة من حلمهِ. تكتبُ إذاً، في فضاءٍ يحتاج إلى الترميم كي يتّضح على القارئ. وجهدها السردي ينصبّ على تعويض ما سقط من الذاكرة. بذلك فإنّها تقدّم مقولات رواياتها بينما جلّ جهدها في مكانٍ آخر، من غير أن يخفّف انشغالها بترميم الجزء المفقود من أصالة مقولاتها.
تكتب في فضاءٍ يحتاج إلى الترميم كي يتّضح للقارئ
نعرف عن عزلة مراد، بطل روايتها الأخيرة، ونحن نلاحق ترميمه لذاكراته، حيث يسرد الحكاية برمّتها في رأسهِ. وهذا مفهوم. ذلك لأنّه يعيش عزلة ثقيلة منذ نشأته. وتمتدُّ عزلة مراد طوال حياته من دون أن يحاول كسرها. كما لا تصوّر منصورة العزلة على أنّها أزمة تحتاج إلى حلّ، وإنّما هي شكلٌ مستقرٌ للعيش. وقد كتبت عز الدين روايتها بين القاهرة وشنغهاي خلال عام 2018، إلا أنّ القارئ يلمح ظلال الوباء في نمط عيش مراد. فهو يعيش بمفردهِ بالمقاييس كافة. حتّى عند قدوم شهر رمضان، يلقي عليه زملاؤه في العمل واجباتهم؛ إذ ليس لديه من يقضي الإفطار معه. وتأخذ الكتابة لدى مراد أقصى أشكال التواصل. يعمل في أرشيف جريدة، ويتقاعد بعد تمديد لخمس سنوات. ويدوّن في دفتر التجليات، ولهُ من العمر 65 عاماً، شيئاً من تجربة عيشه في العالم. لكنه، مجدّداً، لدى منصورة عز الدين عالمٌ ملتبسٌ وغنيٌ بالتفاصيل.
يعود مراد في دفتر التجليات إلى لحظاتٍ فارقة من حياتهِ. مثل عيشه في منزل يُدعى "بيت العبد". ونشأتهِ معزولاً عن أترابه الأطفال بسبب تنمّرهم عليهِ. ثمّ إعجابهُ بوردة الفتاة الخلاسية المنبوذة التي رافقت ولادتها إشاعات تشكّك في نسبها. واقتراب مراد منها يكاد يكون الحدث الوحيد في الرواية الذي حاول من خلاله كسر العزلة. بعدما دفعهُ الحبّ الأول خارج دائرتهِ الآمنة، إلا أنّ عائلتهُ رفضت ذلك التقارب. وتزوجت وردة رجلاً غيره. فيما أختهُ ليلى اختارت من تتزوج، اختارت من تحبّ، وعَصت العائلة التي اعتبرت أنّ البنت ماتت. ورآها مراد، بالفعل، تغرق في النيل في أحد أحلامهِ. يتزوّج مراد من غير أن يكسر طوق العزلة باشتراطهِ على زوجته ألّا ينجبا. وهذا شرط يحمل سبب الانفصال معه، عندما ألحّت الزوجة على الإنجاب وألحّ مراد على رفضه. لتنفصل عنه، وتتزوج وتنجب مثلها مثل باقي النّساء المتزوجات.
كان مراد مختلفاً عن زملائه في العمل وعن جيرانهِ الذين باتوا بمرور السنوات في خشية من حاجته إلى طبيب نفسي. يقوم بكلّ ممارسات الإنسان المغترب والمعزول، الأمر الذي يظهر في تمسّكه بالبقاء في العمل، فحياته خالية من غير العمل، ثمّ ادّعائه أنّ رفض التمديد كان متوقعاً. وادّعائه أمام صديقه أنّه سيمضي الإفطار الأول من شهر رمضان مع ابن عمٍّ له، واسترساله في تفاصيل اللقاء المزعوم.
كان مراد، إلى جانب كونهٍ معزولاً اجتماعياً، محرجاً من غرابة طباعهِ. فهو يدرك حاجة الإنسان إلى الآخرين، والإنسان كائن اجتماعيّ. لكنّ مراد يعجز عن ذلك من غير أن يعرف القارئ السبب الذي رماه منذ البدء إلى العزلة. إذ تقدّم الرواية نموذجاً لشخصية مغلقة بصورة نهائية. يتصوّر مراد أنّ في تجلياتهِ اتصالاً بين عالمين: عالم من نجا من الطوفان، وعالمُ من غَرق. وفي أوجِ عزلتهِ عن نوعهِ، يزعم أنّه أكثرهم إنسانيّة. يلتقط القارئ تضاداً أصيلاً في شخصية مراد، الذي يحبّ الآخرين، لكنّه يخاف الاقتراب منهم. يشفق عليهم بقدر ما يودّ التخلّص منهم بالابتعاد الدائم.
أبطال روايتها يشبهون أطيافاً لا تتوقّف عن الترحال
سيرة مراد في دفتر التجلّيات سيرة للمحو، لا للخفاء. ذلك لأنّ مراد يكتب، ومن ثمّ يمحو ما كتبه. ومن بين الملامح التي تستدعيها الذاكرة لعلاقاتهِ مع البيئة التي ولد فيها، مع جدتهِ وشيخه في مدرسة الكتّاب، ومع والدتهِ وأختهِ، ولاحقاً مع زوجته وابن عمهِ، تبقى وردة أعمق أسرار ذلك الإنسان الذي يعيشُ لخمسة وستين عاماً نادماً على فرصة تخلّيه عن حُبّه الأول. وقد اجتهد مراد، ما استطاع، كي يمحو ذاكرته برمّتها. عدا تلك الإشراقة الأولى للعاطفة. وفي تصوير مراد للعالم الذي يوجد في الخارج، خارج غرفته، خارج رأسهِ، خارج دفتر تجلياتهِ. يصوّر عالماً عناصرهُ متباعدة، وناسه يظهرون اجتماعيين كي ينفوا حقيقة مناقضة، وهي أنّهم ليسوا كذلك. كأنّ في تمثيل السلوك الاجتماعي تأكيداً قهرياً أنّ الإنسان بات يعيشُ معزولاً. تقول لنا منصورة عبر بطلها المعتزل مع نفسه، كي يكتب، إنّ العزلة تقيم في الخارج بين الآخرين، بينما الداخل غنيٌ بالحكايات التي تأتي مرّةً من الخيال ومرّةً من الذاكرة.
نقرأ من الرواية: "أتأمل المحال والمطاعم والمقاهي، وأعجب من الصمت التام الذي يرين على كلّ شيء. أخمّن أنّ الآخرين يتعمّدون تجاهلي، أو ربما لا يرونني من الأساس. يسيرون ناظرين إلى نقطة ثابتة أمامهم، أو يجلسون شاردين هنا أو هناك. لا أحد يتكلّم مع أحد، وعلى الجميع سيماء الجدية والانشغال، مع أنّهم لا يفعلون شيئاً يُذكر".
بطاقة
صدرت لمنصورة عز الدين خمسُ روايات؛ هي: "متاهة مريم" (2004)، و"وراء الفردوس" (2009) و"جبل الزمرّد" (2014) و"بساتين البصرة" (2020)، و"أطلس الخفاء" (2022)، وثلاث مجموعات قصصية: "ضوء مهتزّ" (2001)، و"نحو الجنون" (2013)، و"مأوى الغياب" (2018)، إلى جانب كتاب في أدب الرحلة بعنوان: "خطوات في شنغهاي: في معنى المسافة بين مصر والصين" (2020). تُرجمت أعمالها إلى عدد من اللغات، وحازت جوائز أدبية عديدة.
* كاتب من سورية