تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "المُترجم هو أقرب الشخصيات للمُمَثّل السينمائي أو المسرحي، وعليه أن يتقمّص شخصية المؤلِّف، وأن يسعى قدر المستطاع إلى التخلِّي عن أسلوبه الخاص"، يقول المترجِم والشاعر العراقي المقيم في هولندا لـ"العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
- في الثانية عشرة من العمر، كنتُ أبحث في المهجر الإيراني عمّا يعوّضني عن الإصدارات الأدبية المُوجَّهة للأطفال، كانت محنتي الكبرى أنّني لم أجد أثراً لـ"المزمار" و"مجلّتي" هناك، ولم يكُن بالإمكان الإفصاح عن ذلك لأحدٍ، نظَراً لحجم المأساة التي كُنّا نعيشها، مأساة التهجير القسري الذي شملني مع آلاف العراقيّين من أصول فارسية، مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
في كُشكٍ بحجم شبرٍ وخطوة، ببداية شارع "چارمندون"، كان مشتي حسن يتربّع على عرش الصحافة الإيرانية، لا كمحرّر أو ناشر، وإنّما كبائع للصُّحف والمجلّات. جوار دكّانه الصغير مساحةٌ واسعة لعرض بضاعته، الذين يلقون نظرة على العناوين الرئيسية يتجاوزون الآلاف في اليوم الواحد، والذين يبتاعون الصُّحف لا يتجاوزون العشرات. كنتُ زبوناً دائماً يحرص على شراء نسخة من مجلة "کیهان بچه ها" (كيهان الأطفال)، ظهيرة كلّ يوم ثلاثاء. بفضل هذه المجلّة الراقية، والتي أظنّ أنها تصدر لغاية اليوم، تعلّمتُ اللغة الفارسية في غضون عام واحد، إضافة إلى بسطتي التي كنتُ أبيع فيها القلائد والخواتم والسجائر والعطور، دون أن يفارق ذاكرتي عطر "گل يخ" (وردة الثلج).
بيت من الشِعر قادرٌ على إطاحة كل خطابات العنصرية
على دكّة مشتي حسن، كانت الصحف تتحدّث عن جبهات الحرب والحصار ومؤامرات "الشيطان الأكبر"، فيما كانت قصص ورسوم "کیهان بچه ها" تزوّد صبيّاً حزيناً في الثانية عشرة من عُمره بما يحتاج إليه لإنعاش حُلم العودة إلى مسقط الرأس، ذاك الوهم كان أكثر قدسيّة من كلّ المقدّسات الرائجة هناك.
في الثامنة عشرة من العمر، بدأت بترجمة قصائد من الشعر العربي المعاصر، في الصفحة الشعرية من جريدة "اطلاعات"، وقصيدة "لنؤمن ببداية فصل البرد" للشاعرة فروغ فرخزاد، هي أول قصيدة فارسية ترجمتها في مطلع التسعينيات، ونُشرت في "نشرة الشرق الجديد"، التي كان يُصدرها الشاعر حسن الطالقاني بمدينة قُم، ومن ثم في "مجلة عيون"، التي كان يُصدرها خالد المعالي بألمانيا.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
- عن الفارسية، ترجمت مختارات من الشذرات الكاريكاتيرية للأديب الساخر پرويز شاپور (1923 - 1999)، وقد صدرت عن دار "كريسطال" في المغرب. استطاع شاپور، بموهبته الفريدة أن يستلهم من الأدب الفارسيِّ الكلاسيكي كلّ أساليب التَّفكُّه والسُّخريَّة والدُّعابة، إذ أخذ من الشِّعر الكلاسيكيِّ عناصر الفكاهة المبثوثة في القصائد، كالمقطوعات والرُّباعيَّات والغزليَّات؛ بتلميحاتها، وتورياتها، وغموضها، وتشويقاتها، وقلبها، وتوازياتها، وتكراراتها، وعامِّيَّتها المقتضَبة المقتضِبة (التي تتناسب والفكاهة الوعظيَّة)، كما استلهم من الأدب الحديث المُتزامِن مع الثَّورة الدُّستورية (1905- 1911)، والحقبة التي تلتها أشكالَ الحكايات والرُّسوم التوضيحية، والقصص القصيرة والروايات، وهي نثرية في مجملها.
وعن الهولندية، مختارات من قصائد الشاعر الهولندي يان آرندس، المُنتحر في أمستردام عام 1974، إضافة إلى عمل ترجَمي مشترك مع الأكاديمي والمترجِم أسعد جابر، والشاعر العراقي شعلان شريف، حمل عنوان "سماء ثانية: مختارات من الشعر الهولندي في القرن التاسع عشر".
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
- غياب المؤسسات الجادّة التي تُعنَى بالترجمة من حيث تمويل أعباء الأعمال الأدبية، أو الإسهام في تنظيم حقل الترجمة، وإقامة مؤتمرات وندوات تُناقش كلّ ما له صلّة بالارتقاء بالترجمة، باعتبارها أداة حوار وتلاق بين الثقافات. لو أخذنا "مؤسّسة دعم الأدب الهولندي"، كمثال للاحظنا أنّ للترجمة الحصة الكبرى، من حيث الدعم. يُمكن الإشارة أيضاً إلى عقبة أُخرى، تتمثّل بخوف المترجم من قرصنة جُهوده سواء من قبل المترجمين أو دور النشر. ثمّة مترجمون بارعون في إدخال تغييرات بسيطة على نصوص متُرجمة وإصدارها بأسمائهم، إمّا من أجل المال أو من أجل التفاخُر بعدد الإصدارات.
الجوائز العربية دون استثناء يتشابك فيها الثقافي واللاثقافي
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- قناعتي، المترجِم المُتمكّن من صنعته ليس بحاجة لمُحرّر، إن كان القصد من تحرير النص هو إعادة صياغة أسلوبية. مهارة المترجم في جزء أساسي منها تتمثّل بتقديم صياغة تُضاهي النص الأصلي، إن في النبرة والإيقاع وإلخ. يحتاج المترجم إلى مدقّق لغوي ومُراجع يُجيد اللغتين، المحرّر لا. أفضّل الترجمة المُنجزة عبر لغة وسيطة على الترجمات المُحرّرة، فيما يخصّ الشعر فقط.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- أسّست منذ عامين دار نشر عربية، من أجل أن أتحرّر من هيمنة الناشر العربي، لنتّفق أن أغلب الناشرين العرب معنيّون بالرِّبح أكثر من أيّ اعتبار معرفي أو جمالي. لستُ بصدد أن أتحدّث هنا كناشر، ولكن في علاقتي مع المؤلِّفين، أعمل رقابة ذاتية كي لا يتطابق سُلوكي مع ناشرين عرب طالما وجّهت إليهم سهام النقد. لا أشعر بالإحراج أن أنشر إصداراتي، وهي قليلة في الأساس، في دار النشر التي أسّستها، ويهمُّني جدّاً أن أتعامل خارج هذه الصيغة مع دُور نشر صغيرة يُديرها شعراء غير مهووسين بالرِّبح المالي.
أحتجز النص لفترات طويلة قبل أن أمنحه الحقّ في الظهور
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- ربّما أكون أول من ترجم إلى العربية قصائد وشذرات للخُميني، وقد حرصت على أن أكتب اسمه الأول "روح الله"، بدون أية صفة أُخرى، لا كرجل دين ولا كزعيم سياسي، أي بعيداً عن التمجيد والقدح. كما ترجمت قصائد لشعراء لهُم مواقف مُعارضة لحكومة بلدهم، في الجانب الآخَر من عملي الترجمي نقلت إلى الفارسية قصائد لشعراء عراقيّين لديّ مُلاحظات على مواقفهم السياسية. لو كان سامي مهدي شاعراً مُميّزاً في رأيي، ومُقنعاً لذائقتي الشعرية، لما توانيت في ترجمة قصائده إلى الفارسية.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
- أغلب من ترجمتُ لهم فارقوا الحياة: عباس كيارستمي، وأحمد شاملو، وفروغ فرخزاد، وسهراب سبهري، ونيما يوشيج، من حُسن الحظّ أنني بصدد ترجمات لشعراء على قيد الحياة، صادق رحماني وسيد علي صالحي إلى العربية، وشعراء عرب إلى الفارسية، إضافة إلى مشروع ترجمة مختارات للشاعر الهولندي آريان داينكر.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- أعتقد أنّ المُترجم هو أقرب الشخصيات للمُمَثّل السينمائي أو المسرحي، وعليه أن يتقمّص شخصية المؤلِّف، وأن يسعى قدر المستطاع إلى التخلِّي عن أسلوبه الخاص، لا يُمكنُني مثلاً أن أُقدّم للقارئ العربي قصيدة لفروغ فرخزاد، وأُخرى لسهراب سبهري بأسلوب مُتشابه، ثمّة نبرة احتجاجية عالية في قصيدة فروغ، فيما تنساب قصيدة سبهري كالماء الرقراق في جدول بواحة مُنعزلة عن العالم.
أنا مقلٌّ في الشعر والترجمة ومن القائلين بأنّ الكسل فضيلة
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- كلّ الجوائز العربية دون استثناء يتشابك فيها الثقافي واللاثقافي. والجوائز وحدها لا تستطيع أن ترتقي بالمستوى الثقافي في المجتمعات العربية، تبدو لي أحياناً وكأنّها تبييضٌ صورة الإعلام الغارق في التفاهات والسطحية.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
- أتمنّى أن يتضاعف عدد المؤسسات العربية المعنية بالترجمة، ضمن خطّة تضع في عين الاعتبار نجاح الإصدارات من حيث جودة الترجمة، ومن حيث انتشار الكتاب. هناك مؤسّسات عربية متخصّصة في الترجمة، وقد أصدرت مئات الكتب المنقولة من لُغات عدّة، ربّما كتاب أو كتابان فقط، من بين كلّ تلك الإصدارات، كانت ذات أهمية، وناجحة في الوصول إلى عدد كبير من القرّاء، فيما تكدّست البقيّة في المخازن.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
- لا أعتقد أنّ لديّ عادات مُحدّدة في الترجمة، ترجمتُ في مخيمات اللاجيئن في هولندا، وترجمتُ في حافلات النقل والقطارات، كما ترجمتُ في الكثير من المطارات الأوروبية التي قضيت فيها ساعاتٍ طويلة في الترانزيت. وإذا كان لا بدّ من اختلاق طقس سأقول: إنني أحتجز النص لفترات طويلة، قبل أن أمنحه الحقّ في الظهور. لدي مخطوطات ترجمات شعرية عديدة، أعود إليها بين حين وآخر، أُجري عليها تعديلات وتصويبات ثم أُعيدُها إلى مكانها في انتظار أن تحين لحظةُ ولادتها. لا أنافِس أحداً في مجال الترجمة، ولستُ مصاباً بعُقدة الأرقام والأعداد. والناشرون العرب يتعاقدون مع مترجمين رديئين، وفق جدول زمني قصير لترجمة أعمال أدبية عظيمة، دون أدنى اهتمام بالجودة. أنا مقلٌّ في الشعر والترجمة ومن القائلين بأنّ الكسل فضيلة.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
- أتمنى أن أُصدر العام المُقبل مع الصديق الشاعر والمترجم رشيد وحتي مشروعاً بدأنا في العمل به منذ سنوات: "مُنْتَخَبَاتٌ مِنَ الشِّعْرِ الْعِرْفَانِيِّ الْفَارِسِيِّ"، وحُلمي كمترجم أن تتحوّل الترجمة إلى وسيلة ناجعة في ترسيخ قِيم الحوار مع الآخر، ففي الآن الذي أجزم بفاعلية ترجمة الأعمال الأدبية في الاعتراف بالآخر، أرى أن الوصول إلى أُفق مُثمِر للحوار يستلزم وجود مؤسّسات داعمة للترجمة الأدبية في كلا الضفّتين، وأقصد من الضفّتين هنا البلدان الناطقة بالفارسية من جهة، والبلدان العربية في الجهة الأُخرى. قناعتي أنّ بيتاً شعرياً من "المُلَمَّع" قادرٌ على إطاحة كل الخطابات العنصرية التي تقف كحجر عثرة في عملية مدّ الجسور بين الشعوب.
بطاقة
شاعر ومترجِم عراقيّ مُقيم في هولندا، عمل في الصحافة الأدبية منذ مطلع التسعينيات، وساهم في إصدار عدد من المجلّات الثقافية مثل "الهامشيّون" و"شيراز"، كما أشرف على القسم العربي في قناة "zoomin.tv" الهولندية. من ترجماته عن الفارسية: "سهراب سبهري: الأبدية في الأغصان" (2005)، و"فروغ فرخزاد: مختارات شعرية" (2005)، و"مختارات من الشعر الفارسي المعاصر بشقّيه الإيراني والأفغاني" (2005)، و"أخضر أحمر وقصائد أُخرى" (2022) لصادق رحماني، عن منشورات "همسايه" في طهران، و"أرقص مع الزوبعة" لپرويز شاپور، التي صدرت مؤخَّراً عن "منشورات كريسطال" في المغرب. كما ترجم إلى الفارسية مختارات للشاعر العراقي صلاح نيازي، بعنوان "تأخّرت المعجزة" ("براى معجزه دير است"). وأصدر، بالتعاون مع رشيد وحتي، الأعمال الشعرية الكاملة للمخرج السينمائي الإيراني عباس كيارستمي، تحت عنوان: "ليْلٌ مُرَصَّع بُرُوقاً" (2021). ومن ترجماته عن الهولندية: "قصائد رشيقة كالأشجار" (2023)، عبارة عن مختارات شعرية ليان آرندس، و"سماء ثانية: مختارات من الشعر الهولندي في القرن التاسع عشر" (2023)، بالاشتراك مع أسعد جابر وشعلان شريف. له في الشعر: "منفى فولتير" (2019).