مع غزّة: مفلح العدوان

13 مارس 2024
مفلح العدوان، تصوير: نادر داود
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "إنّها معركة الجميع، من يواجه بالسلاح، ومن يستشهد، ومن ينقل أحداثها ويكتب"، يقول الكاتب الأردني لـ "العربي الجديد".


ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
الإنسانُ والمكان هما ما يؤرقا ذهني كلّ لحظة، وأنا أشاهد وأتابع ما يحدث من إبادة وحشيّة لغزّة. هؤلاء الصهاينة الإسرائيليون الغزاة المحتلون يكرهون كلَّ شيء، نعم كل شيء له علاقة بغزّة وبفلسطين. وما يفعلونه هو أكثرُ من كراهية وأعمق من انتقام. إنّهم يريدون محو كلّ شيء: البشر والشجر والحجر والتاريخ والذاكرة والبحر والتراب والغيم والطفولة والكهولة، بل حتى الهواء يريدون أن يكتموا أنفاسه في غزّة.

نعم. يؤرقني الإنسان الذي صار لا يعني شيئاً لعالَمٍ يُفترض أنّه مدنيّ ومتحضّر ومتحرّر، وساق علينا دروسه وتعاليمه وأنظمته التي شرّعت شرائع حقوق الإنسان، والديمقراطية، والحرية، وحماية الأسرة، ورعاية الطفولة، وبرامج الشباب، والعناية بالكهول، والرفق بالحيوان. هذه الديباجات كلّها التي صدّقناها ذات زمن مضى، قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وأيضاً كذب علينا وعلى الإنسانية بحماية التاريخ والإنسانية والآثار والتراث والبيئة ومكافحة التصحّر، وحماية الغابات، والأشجار، وصون المقدّسات، وقوائم حفظ التراث الثقافي وغير الثقافي للأمم. كلّ هذا صار أكذوبة، ولكنّه يؤرقني. فغزّة ثنائية الإنسان والمكان، قُبلة البحر على ثغر البر، حورية جميلة على سرير أثيري وأثري، دمٌ نبيل في عروق جسد نبيٍّ. كل هذا غزةّ، روحٌ وريحان، معنى ومبنى، فينيقُ يحلّق بجناحي واقعٍ إنسانه القريب، وتاريخ هذا المكان المهيب. إنّهم يريدون تدمير الاثنين، ولا رادع لهؤلاء الهمج، ورثة الشيطان، أعداء الإنسانية.


كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
الإبداع بلا تماس مع الواقع رفاهٌ مشبعٌ بالزيف، وحين تكون ملامح هذا الواقع درامية، تتجسّد في بؤرته لوحة مكتملة وبتخطيط وتآمر عالمي لإبادة جماعية ومجزرة مأساوية وظلم مع طغيان واحتلال وغبن وحقد، كلها تعبّر عن إرهاب عنوانه الكيان الإسرائيلي، دولة الاحتلال، هي لوحة حيّة وقاتمة وليست صورة على شاشة تلفاز. نعم هناك من ينقل هذا الألم، ولكن اكتمال اللوحة في التفاصيل التي لم تلتقطها كاميرات مراسلي الأخبار والقنوات الفضائية. أنا كمبدع أتخيّل تلك التفاصيل المحتجبة أبحث عن تلك الآلام غير المعلنة، والجراح التي نزفت ولم يضمدها أحد، والموتى الغائبون الذين استشهدوا، بعد أن استهدفوا، لأنهم أبرياء، بلا سلاح، ولا ملجأ، وبلا قطرة ماء. اللعنة على هكذا حال، والعتب على كلّ من وقف متفرّجاً، بلا عون، ولا كلمة، حتى ولا دعاء.

آن أوان تحرير العقل ممّا زُرع فيه من مخلّفات الاستعمار

قناعتي أنَّ المبدع الحقيقي، كتابته ليست وليدة رفاه في العالم العربي، بل هي ابنة المعاناة، أبوها الألم، وإخوتها اللهاث والتعب والحزن والسؤال والحيرة والعتب والتوق للحرية والحلم بالأفضل. لهذا إن الكتابة في ظل ما يحدث في غزّة كلّها غضب على ما يحدث، ولكنها أمل في المقابل بأن لا مستحيل مع الايمان والإصرار والإعداد والاجتهاد والتحدي، أننا في مرحلة مختلفة وجديدة، مرحلة فاصلة في الحياة والكتابة والإبداع والخيارات للمبدعين بين من يقف مع صف الحقيقة المظلومة والمنتصرة بكل الأحوال، وبين أشباه المواقف في انتظار لحظة حسم المعركة. قلت وأعيد: الحياد في معركة غزّة خيانة، ولكنها رذيلة وخيانة أكبر عندما تصدر من المبدعين والمثقفين والأدباء والإعلاميين.


إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
إنّها معركة الجميع، من يواجه بالسلاح، ومن يستشهد، ومن يفعل ويتفاعل في المعركة، ومن ينقل أحداثها، في حرب الإبادة هذه وفي مواجهة العدو الصهيوني. الجميع له دور، وعليه أن يقوم به، والعمل الإبداعي ليس كتابة قصة ورواية وقصيدة، ولا هو لوحة فنية، وفيلم سينمائي. الإبداع الحق هو في كيفية قولبة القصة لتكون حكاية شهيد، وتصير القصيدة نبض مقاوم، بينما اللوحة تعطي للتراب معنى فتصير أكثر فاعلية من قنبلة.

ولنا في ذاكرة وتاريخ الإبداع والمقاومة نماذج وأسماء وإبداعات ضحّوا بدمائهم، لأنّ إبداعهم مؤثّر يؤذي العدو كما سلاح غير تقليدي، وأقصد هذا وأعنيه، وفي استشهاد غسان كنفاني مثال، وكذلك ناجي العلي؛ واحد روائي، والآخر فنان استطاعت خطوط رسوماته أن تصيب العدو وتؤذيه.


لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
المجال الإبداعي عنوان، وفيه تتفرع التجنيسات الإبداعية، ولكن فيه المحتوى السياسي والنضالي والإنساني. لذلك المجال الإبداعي أوسع في دائرة العمل والفعل والتأثير والديمومة، ولكنني في بداية مسيرتي الكتابية اخترتُ أن أتخلّى عن العمل الهندسي، وأنا خريج هندسة كيميائية، مع أن هذا المجال في المستوى المالي والمعنوي في عالمنا العربي فيه الجدوى الأكثر اجتماعياً واقتصادياً، وآثرتُ أن يكون موقفي وحياتي ومشروعي هو في إطار الإبداع والكتابة، وعبَّرتُ عن موقفي السياسي والإنساني والنضالي في كلِّ ما كتبته، ولكن بشكل فنّي مختلف وفيه محاكاة لكثير من القضايا الوطنية والقومية والإنسانية.

اللعنة على عالَم يشيخ فيه الأطفال قبل أن يبلغوا


ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
العدل... على العالم أن يعود إلى أساسيات الحياة والأنظم والتوازن وتوزيع الأدوار وأخلاقيات التفاهم أو العداء، وعلى مرّ العصور كان هناك أعداء وأصدقاء، كانت هناك حروب واتفاقيات وتفاهمات، لكن لم تمرَّ منطقتنا العربية والعالم بمثل هذا الاختلال غير المسبوق في توازنات الحياة، حين انعدم العدل، تراجعت الحريّات، زاد الفساد، فقَدَت الشخصيّات الراشدة مكانتها، وتمَّت الاستعانة بطغاة ومفكرين مأجورين قادوا حروباً اتسعت بسببها رقعة الفقر والجهل، وحدث اختلال شامل غاب فيه العدل. فالعدل أساس الملك، العدل الأس الأهم للحياة، أريد العدل للعالَم. إذا تحقّق، تغيّرت أشياء كثيرة، وعاد الكون إلى مستقرّه الحقيقي. 


شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
هو رمزٌ من رموز العدل صاحب الجملة الفكرية العظيمة عبر التاريخ، الخليفة عمر بن الخطاب: ما زال سؤالك على الدنيا مشرع، على العالم الموسوم بالمتحضّر، على الإنسانية: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". تعال أيّها الفاروق، لترى ظلماً لم تشهده البشرية يُمارس على البشر والشجر والحجر، فقط لأنّهم قاوموا، ورفعوا شعار حقّهم الطبيعي "ولدوا أحراراً". ووقفوا بدمائم وأجسادهم ضد الاستعباد/ العبودية. اقبل يا عمر، وقل كلمة أخرى فيها الفصل بين الحرية تحت القصف والنار، وبين العبودية في أمكنة كثيرة خارج حدود غزّة، والسؤال أكرّره كثيراً: متى؟


كلمة تقولها للناس في غزّة؟
أنتم الأعلون، رغم الجراح والدماء وتآمر العالم كلّه عليكم، وأصاب الوَهَن الأقربين الذين يراقبون وهم على مرمى التفاتة منكم، فلا يتحركون ولا يفعلون، وعدوّكم عرّيتموه أنتم، فصار أوهن من بيت العنكبوت. كبرتم، وتعاليتم، وتقزّم العالَم أمامكم، ظهر على حقيقته بوحشيّته وظلمه وازدواجية معاييره، فكونوا الصامدين رمزاً للحرية والتحرر والمقاومة الأسطورية.  


كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
آن أوان تحرير العقل ممّا زرع فيه من مخلّفات الاستعمار، غزّة قدمت درساً تاريخياً للاعتزاز والعزّة والتحرّر، فلتكن بمستوى هذه اللحظة التاريخية الفارقة. انفض الغبار عن طائر الفينيق الذي يتجدّد بعد كل زمان، لقد حان وقت تحرّرك، وتحليقك، وأوّل النهوض غزّة، فكن معها، لأن الحياد في هذا الوقت خيانة!


حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
أنتم ما عدتم أطفالاً، كبرتم قبل أعوامكم الأولى. دولٌ عُظمى وجيوش جرارة تقاتلكم، لقد فضحتم أكاذيب العالم حول حقوق الطفل الذي يدعيه العالَم المتحضّر، لكنّه مراقب صامت أمام ظلم الاحتلال والبشرية كلها بحقكم. أطفالُ غزّة، أركع أمام حزنكم وما فعله الشرُّ فيكم، وأقبّل أرجلكم، وكلّ ما فيكم. ولا تنسوا، أنتم جيل الحقّ القادم، رغم كلّ مأساة. اللعنة على العالم الذي يشيخ فيه الأطفال قبل أوان أن يبلغوا!


بطاقة

كاتب مسرحي وقاص أردني ولد في مدينة الزرقاء عام 1966. حاز درجة البكالوريوس في الهندسة الكيميائية من "الجامعة الأردنية" سنة 1990. لديه مجموعات قصصية عدّة، منها: "الرحى" (1994)، و"الدواج" (1996)، وموت عزرائيل" (2000)، و"شجرة فوق رأس" (2009). كما أصدر عدّة مسرحيات، منها: "عشيات حلم" (2001)، و"مرثية الوتر الخامس" (2006)، ورواية بعنوان "العتبات" (2013)، بالإضافة إلى "موسوعة القرية الأردنية" في جزأين.

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون