مع غزّة: سالم الشهاب

27 فبراير 2024
سالم الشهاب
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "أكثر ما أخشاه هو أن نعتاد الألم وقوائم القتلى"، يقول الكاتب والمُترجم الكويتي في لقائه مع "العربي الجديد".



ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- الاعتياد، أخشى الاعتياد.. أن نعتاد الألم وقوائم القتلى، أن يُصبح أمراً روتينياً نمرُّ به في الصُّحف اليومية وصفحاتنا في مواقع التواصل الاجتماعي أثناء بحثنا عن أغنية مناسبة نشاركها مع الأصدقاء، أو ملخّصاً كُروياً لأهداف ليونيل ميسي الأخيرة. أخاف الاعتياد أكثر من أيّ شيء آخَر، في الأيّام الأُولى كنّا نستيقظ في الليلة الواحدة عدّة مرّات، نجلس لساعاتٍ متأخّرة ونحدّث الصفحات الإخبارية كلّ دقيقة، صرنا ننام الآن، يُخيفني ذلك أكثر من أيّ شيءٍ آخَر.


كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟

- أعتقد أنّ العدوان لم يقتصر على أرواح الأبرياء في غزّة، بل امتدّ إلى كرامة الإنسان العربي، فالعدوّ لم يكتف بالقنابل والصواريخ، وصار يصِفُ الشهداء وسكّان غزّة بـ"الحيوانات" عبر مُجرميه وأعضاء حكومته، وآخَر صرّح بأنّه "لا يوجد مدنيّ في غزّة". مثل هذه التصريحات تكشف عن حقيقة هذا النظام الاستعماري الاستيطاني، القائم على فكرة امتياز هذا العِرق وأحقّيته في الأرض والثروة. لذلك فإنّ العدوان على غزّة أثّر علينا جميعاً، لارتباطنا مع شعبها بكلّ ما يحتقره ويحاول هذا المعتدي طمسَه: الدم واللغة والثقافة والتاريخ.

لم يقتصر العدوان على غزّة، بل طاول كرامة الإنسان العربي


إلى أيّ درجة تشعر أنّ العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- أعتقد أنّ العمل الإبداعي مهمٌّ في نقل الصورة إلى الناس المبتعِدة عن المشهد ومتابعة الأحداث، فالكثير منهم لا يعرف تفاصيل هذا العدوان وحقيقته. في كتاب "عن فلسطين"، الذي صدر بترجمتي حديثاً، أكّد تشومسكي في أكثر من موضع أهمّية كسب تعاطُف الإنسان البسيط  ودعمه، الأميركي تحديداً، فهو الأقدر على إحداث التغيير من خلال اختياره لممثّليه ورئيسه الذين يلعبون الدور الأكبر والأهمّ في السياسة العالمية.

لذلك أعتقد أنّ الأدب أكثر فعاليةً من العديد من الوسائل في الوصول إلى الناس المنعزلين عن الواقع، والذين تصل إليهم الرسائل والادّعاءات المُضلّلة من خلال وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي التي صارت اليوم سلاحاً إضافياً لقمع الجموع وتأجيجها.


لو قُيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

- لا أعرف في الحقيقة ما الذي يمكنني عمله، إلّا أنّني سأعود لأبحث عن أمرٍ أكثر فاعلية في مقاومة الاحتلال. هناك اختلاف بين الموقف الأخلاقي والموقف المؤثّر، فالكثير من المواقف الأخلاقية لا تخدم القضية الفلسطينية من قريب أو بعيد، وبذلك تفقد جوهرها في كونها وسيلة للنضال ومقاومة الاحتلال. سأبحث عن المسار المؤثّر، وليس ما يجعلني أبدو بشكلٍ جيّد ويساعدني في النوم ليلاً دون أدنى مسؤولية تجاه الانتهاكات التي لم تتوقّف لحظة منذ بداية العدوان. 

استمرار الاحتلال يعني انحسار رصيد الإنسانية كلّ يوم


ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- في كتاب "عن فلسطين"، قبل عشر سنوات تقريباً، يحكي تشومسكي عن التحوّل الذي حدث في الأوساط الأكاديمية، الجامعات تحديداً، ويقول إنّ الخطاب المناهض للكيان الصهيوني صار مقبولاً أكثر، ولم يعُد يواجِه الكثير من المصاعب عند إلقاء محاضرة تدعم الموقف الفلسطيني. صار بإمكاننا مشاهدة هذا التحوّل اليوم في أوساط الجامعات الأميركية والحرم الجامعية التي تنتفض بأعداد مهولة من الطلبة الداعمين للقضية الفلسطينية. كذلك من المهم الانتباه إلى التحوّل في الرأي العام الأميركي، فقد أظهر استبيان أُجري قبل العدوان الحالي أنّ نسبة المتعاطفين مع الشعب الفلسطيني من الأميركيّين تفوق لأوّل مرّة في التاريخ عدد المتعاطفين مع الكيان الصهيوني، ذلك أمر مهمّ جدّاً، ومن المهمّ أيضاً أن ندفع باتجاهه.


شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟

- في الحقيقة، لستُ مهتمّاً بالمبدعين أو النخب المثقّفة بقدر اهتمامي بلقاء الإنسان المقاوِم، وهو أمرٌ تحقّق لي بالفعل ويتحقّق كلّما ذهبت إلى المعرض الفلسطيني في الكويت مرّتين في السنة. ألتقي كلّ مرّة أبطالاً جدداً وأشخاصاً حقيقيّين جدّاً. عاش جيلنا طفولته في منطقة جغرافية ملتهبة، وكان ضحية العزلة التي فرضتها التوتّرات والحروب بين الأنظمة العربية، فصرنا متباعدين بشكلٍ لم تشهده الأجيال التي قبلنا، وصار الإنسان الفلسطيني - في محيطنا الاجتماعي - مثل الأساطير والقصص المغبرة التي يرويها لك والدك في طريقك إلى المدرسة.

يولد الفلسطيني بطلاً ومناضلاً، وهو حملٌ ثقيل عليه

يولد الإنسان الفلسطيني مناضلاً وبطلاً، وهو حملٌ ثقيل عليه، ومسؤولية كبيرة علينا في حماية هذه الصورة والكفاح من أجلها. 


كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

- من المهمّ للإنسان العربي أن يُعيد محاولته لفهم الواقع السياسي العالمي وتحليله بناءً على الأحداث التي ترتّبت على العدوان. إنّ "إسرائيل" ليست كياناً عادياً أو عضوياً، بل كيان مصطنع وامتداد للنظام الاستعماري الجديد، وللإمبريالية الأميركية تحديداً. لذلك علينا ألّا ننظر إلى "إسرائيل" بتجرّد وشكلٍ مستقلّ عن بقية الأنظمة الغربية، وإنما على أنّها جزء من هذه المنظومة الاستعمارية المتوحّشة التي مارست القتل والتهجير والاستعباد عدّة قرون. وعليه، يجب أن تطاول حملات المقاطعة كلّ الدولة الداعمة لهذا الكيان الطفيلي، وألّا يكون الضغط عليها بالأدوات السياسية فحسب، بل بالأدوات الاقتصادية والجغرافية التي تقوّض حركة المرور منها وإليها.

عن فلسطين - القسم الثقافي


حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- أسألهم أن يغفروا لنا عجزنا. نحزن ونبكي ونعتصر ألماً، لكنّنا عاجزون، عاجزون. غير أنّنا نعدكم - مهما طال هذا العدوان - أن نحمل قضيّتكم حتى آخر رمق، أن نورثها لأبناء وأجيال ستنتصر لكم، وستحمل قضيتكم التي لم نفعل لأجلها المطلوب والمناسب.

إنّني على يقين أنّنا سننتصر. ربّما لن نشهد هذا الانتصار، لكنّه حتماً سيكون. إن استمرار هذا الكيان الطفيلي بالوجود يعني أنّ رصيد الإنسانية في هذا العالم ينحسر كلّ يوم، وأنّ الفشل في إزالته يعني فشل النظام العالمي على الصعيدين الإنساني والأخلاقي، ولن يترتّب عن فقدان الثقة بالنظام العالمي ومؤسّساته إلّا الفوضى التي ليس لأحد القدرة على تحمّل تكلفتها. أثبتت ذلك كلُّ الحروب الكبيرة التي شهدها التاريخ، وهو ما اضطرّ الغرب إلى زرع كيانات طفيلية كهذه تدافع عن أيديولوجياته بالوكالة ودعمها.



بطاقة

قاصٌّ ومترجم كويتي من مواليد الكويت العاصمة، عام 1990، حاصلٌ على شهادة جامعية في تخصّص التمويل من "جامعة دنفر" في الولايات المتحدة، وماجستير في التمويل من "جامعة الكويت"، وماجستير في إدارة المخاطر من "جامعة نيوكاسل" في المملكة المتحدة. صدرَت له مجموعةٌ قصصية بعنوان "كائن يرتطم بنفسه" (2022)، وفي الترجمة: "نكات جيجيك" (2022) لسلافوي جيجيك، و"عن فلسطين" (2023) لنعوم تشومسكي وإيلان بابيه.
 

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون