- يناقش صعوبة تأثير العمل الإبداعي في منع تكرار الأحداث المأساوية، مشددًا على أهمية جعل الضحية قادرة على جعل ألمها ينتصر، ويصف الواقع بأنه يدعو للأسى والتفكير في مستقبل مجهول.
- يفضل الكتابة كوسيلة للتعبير والتأثير، داعيًا لبناء شبكات أمان اجتماعية ومؤكدًا على أهمية الذاكرة والهوية في مقاومة الظروف الصعبة، ويختتم برسالة تعاطف ودعم لأهل غزة والإنسان العربي.
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "نعيش ما نعيشه في الوقت الضائع بين مقتلتين"، يقول الشاعر والكاتب اللبناني لـ "العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- في هذا العدوان تبدّى عجزنا جميعاً عن أن نكون مؤثرين أو قادرين على تغيير ما يجري أو تحسين مصائر المعرّضين لهذا الهول. لو حدث أن انتهى العدوان في بضعة أسابيع، لكنا حسبنا أنّ تظاهراتنا وصراخنا وكتاباتنا وتنديدنا ساهمت إلى حدّ ما في وقف المجزرة. لكننا فعلنا هذا كلّه، ولم تتوقّف. والحال، وجدنا أنفسنا في موقع من لا يستطيع أن ينجز غير انتظار مصيره. في واقع الأمر، كلّنا غزيّون. بمعنى أننا جميعاً بلا سند، ويمكن أن نتعرّض لحملة إبادة. نستطيع أن نحزن، أن نبكي، أن نصرخ، لكننا على ما يبدو نجلس جميعاً في انتظار دورنا.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- هذا العدوان ليس عارضاً في حياتنا الإبداعيّة والكتابيّة. إنّه متأصّل وسيترك آثاره العميقة آجلاً أم عاجلاً على إنتاجنا. نحن نسأل أنفسنا اليوم إن كان ثمّة جدوى لأيّ مما نفعله. حين نخبر قصصنا في روايات وأشعار، أو نبوحُ بأفكارنا في كتابات أُخرى، فإنما نقول إننا نعيش ما نعيشه في الوقت الضائع بين مقتلتين. الذين يعيشون في غزّة ختموا هذه الدّروس وحفظوها عن ظهر قلب. حاجتهم للبوح والكلام مضنية وحادّة، لكنهم على الأرجح يعرفون أنّ ما سيقولونه لن ينجح في تعريفنا بما عانوه. لقد تحوّلنا جميعاً مع مجزرة غزّة، إلى فاقدي نطق. ما نكتبه ونقوله اليوم، إنما نقوله بوصفه مما مضى وعبر. ما ننتظره ليس أبعد من الصمت. صمتٌ يشبهُ صمتَ القبور.
نميلُ لأن نبكي أكثر مما نميل لأن نعمل ونفكر
■ إلى أي درجة تشعر بأن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- لا أعتقد أننا قادرون على التأثير في مسار الحرب أو مواجهتها. أعتقد أننا قد ننجح في منع تكرارها، إذا واتانا الحظ وأسعفتنا المصادفات. مع ذلك أشكُّ في نجاحنا. في مثل هذه الأحوال الصعبة، نحن نميلُ لأن نبكي أكثر مما نميل لأن نعمل ونفكر. التظاهرات في حقيقتها ليست سوى صراخ حزانى، والحديث عن تغيير الرأي العام ليس أمراً يمكن تصوّر نتائجه قبل عقود. إذا كان ثمّة من مهمة جليلة يجدر بنا أن نضطلع بها، فهي المهمة القاضية بجعل الضحية التي تعاني اليوم قادرة على جعل ألمها ينتصر، ولو بعد حين. هذا مع كلّ ما في هذا السعي من تجاهل لما يُراق من دماء. أحوالنا تدعو إلى الأسى. يجب أن نفكر في المستقبل، لكننا ما إن نحاول البدء بالتفكير حتى ندرك أننا قررنا دفن كلّ الذين ماتوا والذين ما زالوا أحياء في غزّة ليتسنى لنا أن نعبر إلى مستقبل ما!
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- لو قيّض لي، فلن أعمل في السياسة. السياسة تعريفاً، هي التضحية بالحاضر من أجل المستقبل. الحاضر هو نحن الناس الذين يحاولون ما أمكنهم أن يتجنبوا وقوعهم موقع ضحايا المستقبل. السياسيون والمناضلون، كما عرفناهم في القرنين الماضيين، هم هؤلاء الذين يصنعون مستقبلهم على دماء ضحايا أفكارهم. لو قيّض لي أن أبدأ مجدداً، كنت سأكتب. أكتب عن كل ما يحول دوني ودون تحقّق الدعة والأمان لي وللآخرين من حولي.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- منذ زمن أقلعت عن وهم قدرة البشر، فرادى ومجتمعين، على تغيير معالم المستقبل. ما أريده حقيقة هو صناعة شبكات أمان اجتماعية في كلّ مكان وكلّ زاوية، تسمحُ للناس أن يقاوموا التغييرات الهائلة التي تطرأ على حيواتهم، وتسمح لهم بتجاوزها أصحاء. كثيراً ما نسمع أخباراً عن قتلة متسلسلين في الولايات المتحدة، وغالباً ما نردّ انتشار هذه الظاهرة إلى أسباب غير مفهومة. وأنا أعتقد أنّ هؤلاء هم استشهاديو هذه البلاد. هؤلاء الذين يعترضون بشدّة على النظام الاجتماعي القائم، لكنهم يدركون في قرارتهم أنهم لا يستطيعون التغيير، لذا ينفجرون كقنبلة.
الضحيّة التي تُعاني اليوم قادرة على جعل ألمها ينتصر
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- بوكوفسكي. لأنه كان فاقداً للأمل، يعيش كدبٍّ وحيد. يأكل ما تيسّر ويعمل ما تيسّر، ويعشق ما تيسّر. إنه الشاعر والكاتب الذي نجح في قتل أوهامه. كلنا نكتب ونناضل ونتزوج وننجب أملاً في غدٍ أفضل. أما هو فكان يعيش يومه فقط. الغد ليس مما يمكن التخطيط له، فلتشرق الشمس وسنفكر في لحظة شروقها إن كنا قادرين على إنهاء هذا اليوم. فلنمضِ إلى حيث تقودنا أقدامنا، ذلك أننا لا نملك وجهة لنمضي إليها. ومن يحسب أنه يملك وجهة لمساره وغداً للتخطيط له يمكنه أن يمرّ بقربنا من دون أن يلقي التحية.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- ما الذي يسعني قوله في هذا المجال؟ أيّ كلام يمكن أن يوازي أو يقترب مما يجري للناس هناك؟ بعيداً عن أيّ موقف سياسي أو فكري أو أيديولوجي: هؤلاء الناس هناك ما كانوا مرّة فائضين عن حاجة هذا العالم. دائماً كانوا بيننا، نحن الذين ندّعي أننا ما زلنا ضروريين للعالم، ومع ذلك تجري عملية إبادة إنسانيّتهم على نحو لا مثيل له. ما الذي يعصمُنا من مثل هذا المصير؟ نحن الذين نحسب أننا ما زلنا نملكُ ترفَ أن نكتب ونتحدّث ونعمل وننام ليالينا في أسرّتنا هادئين. هذه المجزرة أثبتت لنا أننا نحن الذين نحسبُ أنفسنا ناجين، إنما ننجو في الوقت الضائع. في الوقت الذي تغفل عين هذا العالم عنا. وما إن تنظرنا أو تلاحظنا حتى ندخل نحن أيضاً في نفق المجزرة.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- ربما يجدر بي أن أنصح الإنسان العربي في أيّ مكان من العالم أن يقلع عن بعض الأوهام التي يحملها منذ قرنين على الأقل: هذا العالم ضيّق ووعر. وليس ثمّة مكان يمكننا أن نحطّ رحالنا فيه على نحو يبقي لنا هوياتنا. ثمّة من يناصرنا ويدافع عنا في هذا العالم، لكننا في ما يبدو محشورون في موقع لا يمكننا الفكاك منه. بات واضحاً أنّ نجاة بعض الأفراد من هذا العالم مرهونة بقدرتهم على العيش في صمت هوياتهم. وعليهم دائماً أن ينشئوا في المهاجر والمنافي ما يعينهم على تحمل خسارة ما بُتر من حياتهم بقسوة لا مثيل لها. وحيث إنّ الهوية في عمقها هي ذكرياتنا البائسة والسعيدة على حدّ سواء، فيجدر بنا ألّا ننسى. فقط بالتذكر نكون أنفسنا ونكون أبناء وأهلاً لهؤلاء الذين تدهسهم حافلة العالم المضاء.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- لا قدرة لي على أن أنصّب نفسي في موقع رجل إنقاذ. أنا أيضاً مهزوم ومنكسر ومجروح. لكن كلّ هذه الانكسارات لا تعفيني من تمنّي معانقة دارين، التربيت على كتفها بلمسة الرقة. لأقول لها إنّ العالم وحش يا صغيرتي، لكنّ هذه الكلمات التي قد تشعركِ بالدّعة للحظات قليلة تعادل أزماناً لا تحصى وحيوات لا عدّ لها.
بطاقة
شاعر وكاتب وفنان لبناني من مواليد عام 1963، يعمل في الصحافة المكتوبة والمرئية، منذ 1987، وعمل أمينَ تحرير لـ"ملحق النهار" بين عامي 1993 و2008، كما كتب في دوريات عربية وأجنبية. صدر له في الشّعر: "ربّما ذكرى هواء"، و"عن مرض والدي والحَرّ الذي لا يُطاق"، و"مدينتان" (بالاشتراك مع علي شمس الدين).
له أيضاً أعمال في النقد الأدبي والفني: "في أن الجسد خطيئة وخلاص"، و"عنقي أرفع من شعرة" (بالاشتراك مع وليد رعد وطوني شكر)، و"المعرفة لا تسبق الجهد" (عمل تجهيزي مصوّر بالعربية والإنكليزية)، و"الصورة الباقية والعالم الزائل" (بحث سياسي - فني - اجتماعي)، و"العولمة وصناعة الأحداث الزائلة"، و"التقدّم نحو الكارثة"، ومؤخراً "العالم وهو يهجرنا".