استمع إلى الملخص
- يؤكد على دور الأدب في إثارة الوعي واستنكار الواقع الأليم، مشيرًا إلى أهميته في تشكيل ملامح المستقبل ومواجهة اليأس.
- يعتبر العمل الإبداعي قوة موازية للصواريخ في مقاومة الظلم، مؤمنًا بقدرته على تعزيز المقاومة وتشكيل الذاكرة الجماعية.
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "الكثير من الأوهام التي بدت لنا حقائق غيّرتها غزّة وأهلُها"، يقول الكاتب الأردني أحمد الطراونة لـ"العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- الأدب في حدّ ذاته مقاومة، القصيدة تُرس، الرواية رمح، الصورة اليوم سهمٌ قاتل يخترق صفوف العدوّ، لذلك لا بدّ من هذا الأدب الذي يحمل موقفاً مناهضاً، موقفاً من الحياة برمّتها، موقفاً من هذا الذي يجري على صفحات حياتنا اليومية، "يُخربط" حروفها ويعيد إنتاج مواقفها، ويرسم ملامح مستقبلها. الأدبُ اليوم حالة وعي وانتباه لما يُحاك، حالة استمرار في التبصّر ورؤية ما وراء المرئي، لذلك فإن العمل الفني أو الإبداعي الذي يخلو من الموقف هو عملٌ يخلو من أي إبداع، فلحظة التجلّي التي لا تقودها رؤية، هي وهْم في سياقات واهمة، فدور الأديب أن يُثير ما هو ساكن، وأن يُشعل النار في ما هو غير قابل للاشتعال بنظر العامّة حتى يأخذهم إلى هناك. ما سبق هو استنكار لا تقديم، لأن ما يجري اليوم لا يحتاج منا إلى الانحياز بمعناه التقليدي، بل يحتاج إلى أن نكون في صلب المعركة، لأنها معركة وجود، وجودنا من عدمه، فعلى الأديب الذي يقف على الأعراف أن يعرف أنه خارج التاريخ، وأن ما يكتبه لا يمثّل سواه، فما يشغلني هو هؤلاء الكتَبة الذين يستنسخون الروح العلقمية.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- العدوان على غزّة جرحٌ غائر في مكان لا يُمكن أن يُتعامل معه طبّياً، جرحٌ غائر في الروح، فكلّما استُفزّت الروح ثقُل الهمّ والوجع، وهذا بحدّ ذاته يستفزّ الإبداع الذي يستفزّ نكوص الحياة ويقاومه، من هنا يمكن القول بأن أجمل الإبداع ما اجتُرح وقت اشتداد الجرح، لذلك هذه لحظة استفزاز عالية، يمكن من خلالها تقديم الكثير لسردية كادت تغيب أو تتلاشى تحت وهْم الخوف ووهْم سيطرة الآخر ووهم مركزية الوعي القادم من وراء المحيطات، والكثير من الأوهام التي بدت لنا حقائق غيّرتها غزّة، وأهل غزّة، وقدرتهم على الصمود الأسطوري الذي تجاوز كلّ ما يمكن أن يُسمّى إبداعاً. الكتابة اليوم على مقصلة الحقّ، إمّا لك وإمّا عليك، وعلى النصّ الذي يُولد بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول أن يكون مُنذِراً بقلق، وإلّا على صاحبه أن يُجهض.
■ إلى أي درجة تشعر بأن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- كلمةُ الحقّ في وجه سلطان جائر، قد يبدو للبعض أننا لسنا بحاجة لِلَغوٍ زائد في ظلّ هذا الموت المُطبق، لكن لا بدّ أن نقول: إن الأدب هو حامل، رافعة بأذرع لا تحصى، سرُّه أنه ينطق بعد أن تصمت كلّ الأشياء. قد لا نبدو اليوم بحاجة لأدب يُصوّر لحظتنا، لكنّنا بعد أن يُعاد ميزان الحياة وتستقرّ الأرض لا بدّ من حكواتيّ يقصُّ سيرة بني هلال، أو حامل صندوق عجائب يُرسل لنا صور الدّم في بغداد لحظة استباحتها فنعيش الألم بعد زمن، وقد نحتاج بعد أن يُرتق جرحنا إلى من يُعيد لذاكرتنا الألم، الألم ذاته الذي عاشته غزّة منذ أن كانت، مروراً بكلّ هذا الطريق. هذا على صعيد الذاكرة، أمّا على صعيد المواجهة، فلعلّ رسائل الدحدوح كانت بقسوة صواريخ القسّام، وكاميرات المناضلين وتقاريرهم أقسى من كلّ قذائف الهاون، ولعلّ نصّاً هنا أو قصيدة هناك، أو صورة إخبارية، أو أغنية تجوب العالم هي بحجم قنبلة. نعم. للأدب بكلّ صنوفه دورٌ مُهمٌّ في المواجهة، وقدرة فائقة في إعادة الثقة في مشروعنا الذي انتزعته ذات يوم رقّة النص وتبعية هذا الأدب حين خرج من معسكر المقاومة إلى معسكر التسامح.
الأدبُ حالة استمرار في التبصّر ورؤية ما وراء المرئي
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- الإبداع، إن جاز لي أن أصف نفسي بهذه الصفة، هو جوهر كلّ ما سبق، لا يُمكن للسياسيّ أو المناضل أو مَن يعمل بأيّ نوع من أنواع العمل العام أن يعي جوهر وكُنه عمله ما لم يكُن يحمل في ذاته ذلك المُبدع، أو ذلك الذي يرى ما لا يراه غيره، فالمُبدع الذي يخلق الموقف من كلّ شيء هو ذاته السياسي الحقيقي، أو القائد الفذّ، أو المناضل الصلب.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- فشِل العالَم في تحقيق أيّ تغيير، وفشِلت الإنسانية في امتحانها، وفشلت الحقيقة في أن يكون لها وجه واحد، فقد تشظّت في مرآة المصالح والانحيازات القاتلة، لذلك لا أثق بهذا العالم الذي دنّسته هذه الحرب، وأجهَزت على ما تبقّى من أمل في أن يكون هنالك حقّ. لكنّ الظُّلم قد يعيد إنتاج الصورة، وما أراه اليوم من تظاهرات تتسع في كلّ العالم، ظاهرها فلسطين، جوهرها هو الانفكاك من الظلم، الانفكاك من التبعية، وما حرب غزّة إلا مناحة تتذكّر فيها كلّ فئة ما فقدت، فتنوح على فقيدها، وما غزّة إلا عنوان. لذلك قلت إن الإنسانية قد فشِلت في امتحانها، وأنها فقط تتذكّر ما وقَع عليها، وليس بيدها أيّة قدرة على التغيير.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- ماذا عساك أن تقول لهذا النموذج النادر من البشر؟ هذا النموذج الذي تجاوز كلّ الكلام، تجاوز كلّ آيات الصبر. ماذا عساك أن تقول لمن يؤمن أن بَركة الدم، وحرارة الدمع، وجزالة الأنين، وصراحة الصمت، كلّها يقين بأن الموت ليس نهاية المطاف، وأنها بداية طريق الحقّ. "إن يمسَسْكم قَرْح فقد مسَّ القوم قَرْحٌ مثله"، فلا ملاذ إلّا الصبر، لكن أيّ صبر وأنتم من أعاد تشكيل ملامحه وخصاله من جديد.
فشِل العالم في التغيير وفشِلت الإنسانية في امتحانها
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- بعد السابع من أكتوبر تمّ لجم النظام الرسمي العربي، وسقطت ورقة التوت، وانكشفت عورة المواقف والأيديولوجيات الفارغة، وأضحت مسارات التطبيع واستراتيجيات مسح ملامح فلسطين من الخريطة بلا رادع، وأصبح الشعب العربي كذلك بلا بوصلة، وسقطت الاتجاهات في بوصلة الوهم والخوف والتردُّد، وأصبحت الجهة الوحيدة التي تؤشّر إليها هذه البوصلة هي القدس، وهذا يعني أننا أمام منعطف تاريخي وجودي علينا أن نستغلّه، وأن هذه فرصة لن تعود، وعلينا أن نستغلها، فالانقسام على شفرة المقاومة قاتل. علينا أن نخلع خرقة الخوف التي أدمت ظهورنا، فهذا الذي نراه اليوم من حرب إبادة وتجويع وتهجير لشعب كامل يحتاج لموقفٍ، لضمير، يحتاج لصدقٍ في التعاطي مع هذا المشهد المهول للموت الذي يقع على أطفالنا وشيوخنا ونسائنا، علينا أن نخلع "قميص عثمان" وأن نخرج للشارع بيدٍ واحدة لنقول إننا هنا.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- لقد تجاوزتم الأنبياء بصبركم، وأدمت طائراتكم الورقية ضمير العالم، فلا ضير إن سقطت أطرافكم في طريق الحقّ، فهي بذار الجنان. رغم صعودكم بلا أجساد، إلّا أنكم أجدر منّا بالحياة.
بطاقة
روائي وكاتب مسرحي أردني وُلد عام 1969، وحاز درجة الماجستير في إدارة الأعمال عام 2002. عمِلَ صحافياً ومحرّراً في الصحافة الأردنية لسنوات طويلة، وهو أحد مؤسّسي "الآن ناشرون وموزّعون" في عمّان عام 2013. صدرت له رواية "وادي الصفصافة" (2009)، التي نال عنها جائزة الدولة الأردنية التشجيعية سنة إصدارها، ورواية "خبز وشاي" (2016)، كما كتَب للمسرح الأردني نصوصاً عدّة، منها "فيسبوك"، و"منيفة"، و"العزوة".