مع غزّة: آدم فتحي

01 ابريل 2024
آدم فتحي
+ الخط -
اظهر الملخص
- الشاعر التونسي يعبر عن تأثره العميق بالعدوان على غزة، مشيرًا إلى مشاعر الذهول والوجع التي تنتابه ويصف الأحداث بأنها عدوان إبادة وكارثة على البشرية.
- يواجه صعوبات في الكتابة بسبب الأحداث، معتبرًا الإبداع في ظل هذه الظروف نوعًا من النضال والمقاومة، ويؤكد على تأثير الصور المحترقة على قدرته الإبداعية.
- يرى الشاعر العمل الإبداعي كوسيلة لمواجهة العدوان وتحويل الألم إلى أمل، مؤكدًا على أهمية الكتابة كنضال وفعل سياسي، ويختتم برسالة أمل وتضامن مع أهل غزة والإنسان العربي.

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "ما يحدث من عدوان إبادةٍ على غزّة هو سقوط مدوٍّ لهيكل البناء القيميّ الإنساني" يقول الشاعر التونسي لـ "العربي الجديد".


■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- هواجسي عصيّةٌ على التحديد، ملتهبة، متفجّرة، يتنازعها الذهول والوجع والقهر والحرقة، مع شيءٍ من "الديجافو" الذي يفوق الاحتمال. لقد ورثتُ مع أبناء جيلي عدوان المستعمِر علينا منذ عقود. إلا أن البشاعة والفظاعة والساديّة بلغت درجات تراجيديّة، بل قِياميّة غير مسبوقة هذه المرّة. إنّ ما يحدث من عدوان إبادةٍ على غزّة هو عدوان إبادة على الجميع، وكارثة على مجمل مكتسبات البشر السياسيّ وسقوط مدوٍّ لهيكل البناء القيميّ الإنساني. وما كان لكلّ هذا السقوط أن يحدث لولا أنّ الإنسان يعيش هذه الأيّام تحوّلاً من أفدح "تحوّلاته". لقد أصبحنا فعلاً أمام ذاك الكائن الذي أطلق عليه سيوران اسم "الإنسان المُسَوَّس"، الذي لن نقول في حضوره "أنا موجود"، دون أن تحمرّ وجوهنا خجلًا. من ثمّ الإحساس بالخزي. خزي الجميع، متكلّمين وصامتين ومتفرّجين ومتآمرين ومُثبّطين وعاجزين وقادرين على الفعل متقاعسين عنه. ولعلّ أملنا الوحيد أن تتيح القيامة الفلسطينيّة الفارقة للإنسانية قاطبة عبور الروبيكون في اتّجاه الإنسان من جديد. 


■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟

- أن تكتب يعني أن تضع جسدك على الورق. أن تكتب المكان يعني أن تستحضر جسد المكان على الورق نفسه أيضاً. هكذا أفهم الكتابة. لكنّ الورق أصبح أكثر احتراقًا بجسدي وبجسد المكان هذه الأيّام. ثمّة نصّ اقتحم عليّ ورشتي منذ السابع من أكتوبر أحاول أن أتحاور فيه مع حرقتي الشخصيّة. أكتبه في ضوء الرسائل التي تصل إلي من هناك، من الأصدقاء والأحبّة، وفي ضوء الصور المتهاطلة من شاشات التلفزيون، لكنّني لا أستطيع الفكاك من هذا النصّ. لست قادراً على إتمام أيّ نصّ هذه الأيّام. كلّ شيء شظايا. كلّ شيء ركام. كلّ شيء يتصاعد منه لهبٌ ودخان. حتّى الصور. خاصّة الصور. ما من صورة إلاّ وهي تَحرق وتحتَرق. تحرق الشاشات، تحرق العيون. الريموت كنترول نفسُه يحترق بالصور ويحرق أيدينا ما إن نمسك به لنعبر من شاشة إلى أخرى بحثاً عن جرعة أمل.

الريموت كنترول نفسُه يحترق بالصور ويحرق أيدينا

■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- لا يمكننا مواجهة حرب الإبادة إلاّ عن طريق إثبات الوجود، ونحن لا نثبت وجودنا إلاّ إذا عرفنا كيف نَقُولنا إبداعيّاً. من ثمّ إصرار المبدعين على الإبداع حتى حين يكونون في فم الوحش. فكيف ونحن نكتب على طاولة تتحرّك على زلزال أو في فوهة بركان. ولا نملك غير اللغة، لغة اصطدمت بجدار الصمت أمام وابل الصور المباشرة التي تكاد العين لا تصدّقها لهول بشاعتها من جهة بطش الجلاد الصهيونيّ، ولفرط إعجازها من جهة الصمود الفلسطيني. ليس أمامنا إلاّ أن نكتب. لقد ذهب بروست في زمنه إلى أنّ الأحزان ما إن تتحوّل إلى أفكار حتى تفقد جزءاً من تأثيرها الضار على الوجدان، وأنّ القراءة والكتابة قد تساعد أحياناً على التغلّب على الألم. أمّا نحن، أبناء هذه المرحلة، فإنّ تحويل الأحزان إلى أفكار قد لا يخفّف من ألمنا، لكنّه قد يساعد على تحويل ذلك الألم إلى أمل. 


■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أم مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

-  لو بدأت من جديد لاخترت الطريق نفسه. لا حدود للمبدع إلاّ الأفق. أمّا السياسيّ فحدوده الممكن. من ناحية أخرى كنت دائم الاقتناع بأنّ الكتابة نضالٌ وفعل سياسيّ بامتياز. لكنّ الكاتب ليس موظّفًا عند أحد، لا عند فكرة ولا عند حزب ولا عند زعيم ولا حتّى عند الشعب. السياسي يجامل شعبه "العظيم" وينافقه ويكيل له المديح إذا أراد أن يكسب أصواته. أمّا الشاعر فهو  يحبّ شعبه، لذلك هو غير معنيّ بمجاملة الشعب. قد يخرج على شعبه إذا رآه ذلّ وخنع وتخاذل، تماماً كما فعل أبو القاسم الشابّي حين رأى ما رأى، فتمنّى أن يكون حطّاباً يهوي على الجذوع بفأسه، صارخاً في شعبه: "أنت روحٌ غبيّةٌ تكرهُ النور وتقضي الدهور في ليل ملسِ/ أنت لا تدرك الحقائق إن طافت حواليك دون مسٍّ وجسِّ..."، مضيفاً: "أيّها الشعبُ أنتَ طفلٌ صغيرٌ لاعبٌ بالتراب والليلُ مُغْسِ/ أنتَ في الكون قوّةٌ لم تسسها فكرةٌ عبقريّة ذات بأسِ...". 


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- لا أنتظر شيئًا من العالم بل أنتظر أشياء من الإنسان. أنا أحبّ عبارة غاندي: "كُن أنتَ التغيير الذي تريد أن تراه في العالم".


■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟ 

- أُفضّل التقاء شخصيّات من المستقبل. ممّا وراء الأفق. أمّا إذا تحتّم التقاء شخصيّة من الماضي فليكن برتولد بريخت الشاعر والمسرحيّ الألماني الذي قال: "لن يقولوا كان ذلك في أزمنة عصيبة. بل سيقولون: لماذا صمت الشعراء؟". وهو الذي سأل: "هل سننشد في الأزمنة المعتمة، أيضاً؟ أي نعم، سننشد، نشيد العتمة". سأطلب منه أن ينظر إلى زمننا هذا، وإلى ما يحدث في غزّة تحديداً، في ضوء الصمت المطبق الذي يغطّ فيه الكثيرون، وأن يقول لي إن كان سيعيد كتابة تلك الشذرة كما هي، أم أنّه سيقلب السؤال: "هل سننشد في الأزمنة المقاومة، أيضاً؟"، كي يكون الجواب: "أي نعم. ننشد، نشيد المقاومة". 

ورثتُ مع أبناء جيلي عدوان المستعمِر علينا منذ عقود

■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟

- غزّة هي التي تقول كلمتها اليوم لنا وللعالم. وليتنا نسمعها جيّداً. وليتنا نتمثّل كلمتها وندرك معانيها.


■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

إذا كان لابدّ من كلمة فلتكن هذه: 
"...بما يتبقّى على الأرض من دمِنا 
في الحجارةِ والعُشْبِ 
أكُتُبُ هذي القصيدةْ 
بما يتبقّى من الروح في الرِّيحِ أكتبُ
من بلدٍ في فمِ الذئبِ أكتُبُ 
لكنْ أُطَمْئِنُكُمْ 
لا أنا حمَلٌ لا بِلادي طريدةْ
متى أطبقَ الذئْبُ فَكّيْهِ 
أَشْعَلْتُ ذِكْرَى شهيدٍ 
وحُلْمَ وليدٍ
وقلتُ لِرُوحِي ارقُصِي 
لَحْمَتِي مُرّةٌ وعِظامي شديدةْ
على محنةٍ منذ سِتّينَ 
والنِّيبُ حوْلِي 
أرُشُّ السنينَ على صَبْرِ أهلِي 
كأنّي أهشُّ على بقراتٍ شريدةْ
تعلّمتُ من مِحَنِي 
أن أقودَ الحكاياتِ حتى نهاياتِها 
كيْ أعلّمَ هذي النهاياتِ 
كيف تكونُ سعيدةْ
وَلِي أَمَلٌ كلّما جفَّ أرضعتُهُ 
لبَنَ اليأسِ من يأسهِ، هاتفًا: 
فرحةُ النصْرِ ليست بعيدةْ
فرحةُ النصْرِ ليست بعيدةْ...".


■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- أحبّكم.



بطاقة

شاعر ومترجم وإعلاميّ تونسيّ من مواليد عام 1957. له في الشعر: "سبعة أقمار لحارسة القلعة" (1982)، و"حكاية خضراء والأمير عدوان" (1984)، و"أغنية النقابي الفصيح" (1986)، و"أناشيد لزهرة الغبار" (1991)، "معلّقة القدس في كفّ بغداد" (1991)،"نافخ الزجاج الأعمى أيّامه وأعماله" (2011). له في الترجمة: "يوميات بودلير" (1999)، ورواية "ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان" لـ جيلبرت سينويه (1999)، و"المياه كلّها بلون الغرق" (2003)، "تاريخ ويوتوبيا" (2010)، "مثالب الولادة" (2015)، "رسالة في التحلّل" (2021) لـ إميل سيوران.
 

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون