"معرض جدّة للكِتاب".. شيءٌ ما يحدث هناك

25 ديسمبر 2022
مقرّ المعرض خلال دورة سابقة (موقع المعرض)
+ الخط -

نحسب، من الوهلة الأولى، أن لـ"معرض جدّة الدولي للكِتاب" باباً، شأنه في ذلك شأن بقية المعارض؛ وأنه سيكون محصوراً محدوداً، وإنْ على سعة، كما يُفترض بمعرضٍ. لذا ندخل من الصالة وفي حسباننا أننا سنعود إليها، وأن مسيرتنا ستنتهي هكذا، لكنْ ما إنْ نخرج منها إلى المعرض (الذي اختُتم في السابع عشر من الشهر الجاري) حتّى نجد أنفسنا أمام شوارع وساحات، وما يشبه أن يكون أحياءً، لكلّ منها اسمٌ من حرف واحد.

ندور في المكان، ونطويه موضعاً موضعاً، فنشعر أننا هكذا في شبه متاهة، بل نحن هكذا في ما يشبه أن يكون مدينة. ثمّة صفوفٌ من دور النشر تتلاحق وتفترق وتتخلّلها ساحات، ومن ورائها أيضاً ساحاتٌ وصفوف. أمّا المفاجئ في ذلك أكثر من شساعة المكان، إلى حدٍّ يكاد يفيض عن نفسه، فهو الجمهور الذي احتشد على طول هذه المساحة، وهو يسيل بينها. جمهورٌ يتجّمع في هذه الساعة من الليل؛ لقد وُجد هنا ويستمرّ لبقية السهرة. انوجد وها هو يزداد ويستمرّ في الازدياد. 

من نظرة أولى إلى هذا الجمهور، يمكننا فوراً ملاحظة أن أكثريته ــ سبعين في المائة أحياناً وربما أكثر ــ من النساء. إنه المساء ولسنَ قابعات في بيوتهنّ. لقد خرجن منها لينشطن في هذا الحشد، ليزاولن هذا المراس الاجتماعي، هذه النزهة، فالمعرض أيضاً منتزه ثقافي.

تغييرٌ لا أحد يعرف إلى أين سيصل وإلى أين تنتهي مراميه

النساء هكذا يمارسن وجودهن، بحسب اللحظة، ويتحرّكن في مجتمعهن. هذا ما لم نسمع به، من قبل، عن المملكة السعودية. كان في خروجهنّ هكذا ما يشبه التظاهرة، ما يكاد يكون ممارسة حرّة لأنفسهن وأشخاصهن وسط هذا الحشد. كان من الطبيعي أن ننظر إلى وجوههن؛ كنّ جميعاً محجّبات كما يقتضي الماضي، بل وكان للكثيرات منهنّ براقعهن أيضاً، لكن أحياناً، وسط هذا الحشد من الزيّ الواحد، تنبثق فجأةً، لدرجة تثير عجبك، سافراتٌ وبملابس ملوّنة. 

لا تعرف من أين جئن، بل ويخطر أنهن لسن من المملكة. لكن حين تتجاسر على سؤال إحداهن، تُجيب أنها سعودية، وأنها لن تصادف اعتراضاً على سفورها، فمِن بعد تجميد "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، لم يعد هناك مَن يتدخّل في أمر كهذا. المجتمع لا يمانع. المحجّبات، بل والمبرقعات، هنّ هنا يواصلن تقليداً وعلاقات وموازين قائمة لا بقانون ولا بسلطة من الخارج. من الواضح أن شيئاً ما يحدث، وقد يكون مداه أكبر ممّا يظهر لأول وهلة. هذا الخروج النسائي الحاشد ليس بدون دلالة. ثم إن السفور، وإن بآحادٍ وأعداد قليلة وسط هذا الجمع، ليس كلّ شيء.

المعرض، مع مدعويه ــ ومنهم عددٌ من المترجمين من العربية إلى لغات أخرى، ومع ندواته التي شاركتُ في إحداها عن ترجمة الشعر، قد يكون بذلك عادياً. إلّا أنه تغيير يحصل بتدريج، لكن أيضاً بقرار سياسي. لقد أُعطي الأمر، وبدأت الخطوات الأولى، واحدة وراء واحدة، لكنّ أحداً لا يعرف إلى أين ستصل، وإلى أين تنتهي مراميها. 

لكن من الواضح أن أمامها طريقاً طويلاً، فتأسيس مجتمع له أبعاد أُخرى وخطوات لاحقة، مسار طويل حافل بالمفاجآت والصعوبات، فالخروج من دولة عقائدية ليس الرهان الوحيد هنا، إذ لا بد أنّ يكون المجتمع نفسه على مستوى ذلك، ومستعدّاً له. التغيير هكذا لا يتمّ فقط بقرار؛ إنه حراكٌ من العمق وفي العمق، ويتطلّب نقلة اجتماعية لا بد أن يخوضها مجتمعٌ بكامله. يكفينا الآن هذا الحشد النسائي لنأمل بأن بوادره الأولى قد ظهرت.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون