كأنّما هي عَتبة تُفضي إلى ما وراءَها ومَرحلة تُدني للّتي بعدها: سيلتقي نخبةٌ من عُلماء المُعجميّة العَرب ضمن تظاهرةٍ معرفيّة تَهدف لتقرير حصيلة ما تمّ إنجازه فعليًّا في "معجم الدّوحة التاريخيّ" والوقوف على نتائج المرحلة الأولى، وهي نتائج ضخمةٌ، من أجل تَحْيينها وتقييمها ومن ثمة تشخيص المآخذ التي قد تكون وقعت فيها، استعدادًا للمُرور إلى ما يلي من الأطوار واستشرافًا لآفاقها، في سبيل الإحاطة بعديد الدلالات المُستحدثَة، طيلة عصر النّهضة.
وللتّطرّق إلى هذه الإشكاليّات ينعقد بالدَّوحة المُؤتمر الدّولي الثالث، اليوم الثلاثاء وغداً، تحت عنوان: "مُعجم الدّوحة التاريخيّ للغة العربيّة وأبعاده العِلميّة والحضاريّة"، والذي يَشهد مُداخلات ثلاثة وأربعين محاضرًا، قدِموا من مختلف الجامعات العربية والأجنبيّة. وسيتداولون، خلال الجلسات الإحدى عشرَةَ، قضايا التحوّل الدلاليّ والنظائر السامية والتأثيل، فضلاً عن إشكالياتٍ أعمّ مثل البُعد الحضاري للمُفردات ونشأة المصطلحات والمقارنة بين المعاجم التاريخيّة، في مسعًى أكاديميّ أقرَبَ ما يكون إلى وَقفة تأمليّة تَتَولّى تقييم ما أنجز، إلى حدّ السّاعة، ضمن أعمال "مُعجم الدوحة التاريخي". وتكتسي هذه المحاضرات بُعدًا نقديًّا يَدعم ما حُرِّرَ ويستشرف ما تبقّى، وهو كَثير.
وسيكون هذا المُؤتمر الذي ينظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالتشارك مع برنامج اللسانيات والمعجمية العربية في "معهد الدّوحة للدراسات العليا" في العاصمة القطرية، فرصة للوقوف على نتائج هذا المشروع الذي لم يَبق في طور الأحلام والوعود، والتي تعود إلى أكثر من قرن حيث تمنّى المستشرق الهولندي رينهارت دوزي (1820-1883)، إنجازه منذ سنة 1882، كما حَلَمَت به سائر مَجامع اللغة العربيّة، ولكنّه لم يخْرُج إلى حيّز الإمكان إلا بفضل جهود مُضنية يَنهض بها الآن، في الدوحة، جلةٌ من الأساتذة العَرب.
تكتسي المحاضرات بعداً نقدياً يدعم ما حُرِّر ويستشرف ما تبقى
والشيء بالشيء يذكر، يشار إلى أنّ الغالبيّة الساحقة من المتدخلين الثلاثة والأربعين هم من العَرب، وبعضهم يدرّس في أعرق الجامعات الغربيّة. ومن أبرز المشاركين في هذه الأعمال الأساتذة حَسن حمزة وعبد الغني أبو العزم ورمزي بَعلبكّي وإبراهيم بن مراد وغيرهم كُثرٌ، لا يَسع المقام لذكر أسمائهم جميعًا، والصفح منهم مأمول. كما أُسندت رئاسة الجلسات إلى عُلماء بَرزوا في هذا الحقل المعرفيّ مثل الأساتذة عبد الوهاب الأفندي وعبد القادر الفاسي الفهري وخيري سعد وعبد السّلام المسدي وعلي الكبيسي وعبد الحميد الهرمة وعبد العلي الودغيري والطاهر ميلة وعلي المخلافي، تقديرًا لما بذلوه من جُهود في ميدان المعجميّة.
فهذه النّخبة تضلّعت، في الآن ذاته من لغة الضاد وتاريخيّة مَعانيها وارتباطها بمبانيها ومقاماتها، ومن مَناهج الصّناعة المعجميّة ومفاهيمها، والتي ازدهرت في ديار الغرب. لكن، ليس اليومَ لزملائهم في تلك الديار ما يَفخرون به عليهم، في تصدّع كامل للتفوّق الاستشراقي وانتهاء هيمنة خطابه التحقيريّ للعقول العربيّة.
ولا يفوتنا هنا التنويه بتظافر الجهود والكفاءات من كافّة البلدان العربية وتعاضدها على إتمام هذا المُنجز، كلّ حسب تخصّصه، وهو ما يؤكد أنّ خدمة الضّاد وتاريخها همّ قوميّ بامتياز، لم يفقد بريقه بالرغم من الدعوات المرّوجة للعاميّات الإقليميّة أو لاعتماد اللغات الأجنبيّة. ففي هذه اللحظة التاريخيّة بالذات، التي يتأكد فيها واجب الحفاظ على الأمن اللغوي والتسمية ندين بها للمفكر التونسي عبد السلام المسدي، وهو ما تنهض به مثل هذه المؤتمرات وما تجتهد في تحقيقه بالرغم من تشكيك المعارضين.
هذا وتنصَبّ جلّ التدخلات على نماذج تطبيقيّة مستوحاة من الموادّ العديدة التي يتضمنها "معجم الدوحة التاريخيّ" في وقفة تَقرب إلى الاستعادة الإبستمولوجيّة تسترجع ما كُتِب وتسبر قيمته العلميّة ومدى تَطابقه مع الحقائق التي تُبنى عبر التركيم والقطيعة والمُراجعة. ولذلك اختار بعض المشاركين امتحانَ فئةٍ من المفاهيم النظريّة كالاقتراض والعُجْمة والاصْطلاح والتّنوّع والتاريخيّة وغيرها، من خلال استنطاق مُعجم الدوحة التاريخيّ لدراسة أنماط حضورها فيه. وفضّل الآخرون الاشتغالَ على جذور مخصوصةٍ وما انبثق عنها من مَفاهيم وإحالاتٍ مثل جذور: "أمم"، و"جرم" و"دهر"، وذلك بغاية التعمّق في فحص توالد الدّلالات منها وتشقيقها عبر الأبنيّة الصرفيّة والتفاعل الثقافيّ مع المحيط الخارجيّ، مما يجعل منها نماذج قد تكشف النّقاب عن مآخذ في المنهج المتّبع إلى حدّ الساعة، أو بِالعكس تُظهر نجاعة هذه الخطّة المعتمدة وضرورة الاستمرار فيها. وثمة أيضا محور المُقارنة بين "مُعجم الدّوحة" وغَيره من المعاجم العربيّة مثل "معجم الشارقة" أو المعاجم التاريخيّة الفرنسيّ والإنكليزيّ والإيطالي. وكل هذه الأعمال من صميم النظر الإبستمولوجي الباحث في منهجيّات صناعة المَعاجم، حَيث تنصبّ العناية على المنهاج أكثر من تعلّقها بنسيج المواد وترتيبها.
يمثل المؤتمر ردّاً على خطاب يعتبر الضاد لغة المقدّس فحسب
وهكذا، يبدو التركيز، في هذا المؤتمر، على البعد الحضاريّ الساعي لتحليل مفردات الثقافة الحاملة للقيم الاجتماعيّة الماديّة والناقلة لكيفيّات سكنى العَرب للعالم، قديمه والحديث، وتسميته الأشياء فيه. وفي اختيار هذا المحور ردّ على الخطاب الذي يعتبر الضاد لغة المقدّس فحسب، لا وجودَ لها خارج السجلّ الدينيّ، والدعوة، بناءً عليه، إلى نبذها والاستعاضة عنها بالدوارج المحلية. ومن طائف المداخلات هنا محاضرة الأستاذ حسن حمزة التي خصّصها لتعريفات البقّال والبدّال من خلال المعاجم القديمة والحديثة، مع التنصيص على الفرق بين الاستنطاق التاريخيّ للنصوص الحضاريّة والبحث المعجميّ فيها.
وتشير أخيراً مختلف فقرات المؤتمر وجلساته إلى رغبة المنظّمين في تخصيص مداولاتهم لفحص التعاريف التي يوفّرها معجم الدوحة ومدى مساعدتها الباحثين على استنطاق أطوار التغيير الدلالي الذي يطرأ على الكلمات، لأن هدف هذا الإنجاز تحديدًا هو الإضاءة على التواريخ الدقيقة التي حدث فيها انزياح دلالي، وتعريف المفردات بحسب سياقاتها الشعرية والنثريّة، وتحول معانيها إما بسبب التوسّع المجازيّ أو التخصيص المصطلحيّ أو بسبب الاقتراض والتفاعل مع اللغات الأخرى.
وهكذا ستتخذ هذه المشاركات القيمة معجم الدوحة موضوعًا للنظر والمقارنة والتمحيص بعيدًا عن نغمة التمجيد التي تعوّدنا عليها وذلك بهدف تجويد المداخل وتلافي المآخذ مع الالتزام بمسافة نقدية كافية تؤكد طبيعة هذا المعجم كحقل حيوي لا تهدأ فيه حركة التحيين والتهذيب.
وهذا الملمح الأصيل، على امتداد يومَين كاملين، سيجعل من هذا المؤتمر سفرًا ممتعًا في خبايا الجذور اللغوية وقد تشكلت كلمات ورموزا، تساعد العربي، طيلة تاريخه الطويل الممتد من صحارى الجزيرة العربية إلى أحدث العواصم على تسمية العالم وعقلنة مكوّناته الحضاريّة والعرفانية، وهي تسميات تطورت بتطور هذه البيئات وتحركت في حدودها وخارجها. فإلى جانب الإفادة ثمة متعة عميقة تتولد عن متابعة مسارات المعاني والمباني في سعيها لمعانقة الواقع والسكنى في خاناته المتحوّلة. نرجو للجميع مؤتمرًا موفقًا يكون عَتبةً تُفضي إلى ما وراءَها ومَرحلة تُدني للتي بعدها.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس