مدن غير مرئية.. كان الوقتُ غسَقاً حين وصلتُ (10)

19 ديسمبر 2021
"منظر طبيعي ومنازل" لـ سهراب سبهري (إيران)
+ الخط -

مدن وأسماء (3) 

لزمن طويل كانت بيرّا، بالنسبة إليّ، مدينةً محصّنة على منحدرات خليج، بنوافذ عالية وقِلاع، منطويةً على ذاتها مثل كأس، ذات ساحة مركزية عميقة مثل بئر، مع بئر في وسطها. لم أرَها أبداً، كانت واحدة من المدن العديدة حيث لم أصل أبداً، واحدة استحضرتها ذهنياً بوساطة اسمها: أوفراسيا، أوديل، مارجارا، جيتوليا. بيرّا امتلكت مكانها بينهنّ، مختلفة عن كلّ واحدة منهنّ، ومثل كلّ واحدة منهن، جليّةٌ في الخيال.

جاء اليوم الذي أَخذتني فيه رحلاتي إلى بيرّا، ما أن وضعت قدمي هناك حتّى أصبح كلّ شيء تخيلته نسياً منسيّاً. صارت بيرّا كما هي بيرّا. واعتقدتُ أنني عرفت دائماً أن البحر غير مرئيّ من جهة المدينة، مختفٍ وراء كثيب ساحل منخفض، متموّج؛ أن الشوارع طويلة ومستقيمة؛ أن البيوت مجمعاتٌ بينها فواصل، ليست عالية، وتفصل بينها قطع أراض مفتوحة فيها أكداس أثاث رديء ومناشر أخشاب؛ أن الريح تحرّك ريشات مراوح المضخّات المائية. منذ تلك اللحظة فصاعداً جلب اسمُ بيرّا إلى ذهني هذا المشهد، هذا الضوء، هذا الأزيز، هذا الهواء الذي يطير فيه غبارٌ ضارب إلى الصفرة: من الواضح أن الاسم يعني هذا، ولا يمكن أن يعني شيئاً إلّا هذا.

يواصل ذهني احتواءَ عدد كبير من مدن لم أرها أبداً، ولن أراها أبداً؛ أسماء تحمل معها شكلاً أو شظيّة أو وميضَ هيأةٍ متخيّلة: جيتوليا، أوديل، أوفراسيا، مارجارا. المدينة المرتفعة فوق الخليج ما تزال هناك أيضاً، في الساحة المنطوية على البئر، إلّا أنني لم أعد قادراً على تسميتها، بل ولم أعد أتذكّر كيف استطعت يوماً إعطاءها اسماً يعني شيئاً مختلفاً تماماً.

يمكن أن تجد جواباً ضمن ما أُخفي بين الزخارف العربيّة


■ ■ ■


مدن وموتى (3)


لم أجازف في جميع رحلاتي أبداً قدر ما جازفت بالرحيل الى أديلما. كان الوقت غسقاً حين وصلتُ هناك. البحّارُ الذي أمسك الحبلَ وربطه بمربط المراكب كان يشبه رجلاً خدم معي جنديّاً وكان ميتاً. كانت الساعة هي ساعة سوق بيع السمك بالجملة. رجلٌ عجوز كان يحمّل سلّة من قنافذ البحر على عربة؛ ظننتُ انني تعرّفتُ إليه؛ حين استدرتُ، كان قد اختفى في أحد الأزقّة، ولكنني أدركتُ أنه بدا شبيهاً بصيّاد كان هرماً حين كنت طفلاً، ولم يعد ممكناً أن يكون بين الأحياء. أقلقني مشهد ضحيّة حمّى رابض على الأرض، تغطّي رأسه بطّانية: أبي، قبل وفاته بأيام قليلة، كانت له عينان صفراوان ولحية نامية مثلما لهذا الرجل. أشحت ببصري جانباً؛ لم أعد أجرؤ على النظر إلى أي شخص في وجهه مباشرة.

وفكّرتُ: "إذا كانت أديلما مدينةً أشاهدها في حلم، حيث لا تواجه إلّا الموتى، فالحلم يخيفني. إذا كانت أديلما مدينةً حقيقية، يقطنها أناسٌ أحياء، فأنا لا أحتاج إلّا إلى مواصلة النظر إليهم وستتلاشى التشابهات، ستظهر وجوهٌ غريبة، تُعاني كرباً. في كلا الأمرين من الأفضل، بالنسبة إليّ، ألّا أُصرّ على التفرّس فيهم".

بائعةُ خضروات كانت تزن ملفوفاً في كفّتي ميزان وتضعه في سلّةٍ مدلّاةٍ بحبل أرسلته فتاةٌ من شرفة. كانت الفتاة مماثلة لواحدة في قريتي جُنّت بسبب الحبّ وقتلتْ نفسها. ورفعتْ بائعة الخضروات وجهها: كانت جدّتي.

ستتعرّف إلى الشارع الذي كنتَ تبحث عنه في خيطٍ قرمزي

فكّرتُ: "إنكَ لَتصل إلى لحظة في الحياة يفوق حينها الأمواتُ الأحياءَ عدداً بين الناس الذين عرفتَهم. ويرفض العقلُ قبولَ مزيدٍ من الوجوه، مزيدٍ من الأسارير: إنها، في كلّ وجهٍ جديدٍ، تُواجهه، تطبع الأشكال القديمة، ولكلّ واحد تجد القناعَ الأكثر ملائمة".

تسلّق الحمّالون الدرجات في خطٍّ واحد، منحنين تحت البراميل والدمجانات؛ كانت قلنسوات من الخيش تخفي وجوههم، وفكّرتُ بخوفٍ ونفاد صبر: "سيعتدلون الآن وسأتعرّف إليهم". ولكنني لم أستطع إبعاد عينيّ عنهم؛ لو حوّلتُ نظرتي المحدّقة ولو قليلاً نحو الزحام الذي يُتخم تلك الشوارع الضيّقة، لهاجمتني وجوهٌ غير متوقّعة، تعود إلى الظهور من أماكن بعيدة، محدّقة بي كما لو أنها تطلب أن أتعرف إليها، كما لو أن هدفها التعرّف إليّ، كما لو أنها تعرّفت إليّ سلفاً. ربما أنا، بالنسبة إلى كلّ واحد منها، أشبه بشخصٍ ما كان ميتاً. لم يمضِ على وصولي إلى أديلما إلّا وقت وجيز، وها أنا أصبح الآن واحداً منهم، انتقلتُ إلى جانبهم، مستغرقاً في هذا المشكال من العيون، التجعّدات، التكشيرات.

فكّرتُ: "أديلما ربما هي المدينة التي تصل إليها محتضراً، ويجد كلّ واحد فيها الناسَ الذين يعرفهم مرّة أخرى. هذا يعني أنني ميت كذلك". وفكّرت أيضاً: "هذا يعني أن العالم الآخر ليس سعيداً".


■ ■ ■


المدن والسماء (1)

في يودوكسيا، الممتدّة صاعدةً هابطةً في آنٍ واحد معاً، بأزقّةٍ متلوية، بدرجاتٍ، بطرقاتٍ نهاياتُها مغلقة، بزرائبَ مكشوفة، يُحتَفَظ بسجّادةٍ يمكنكَ أن تلحظ فيها شكلَ المدينة الصحيح.

رجلٌ عجوز كان يحمّل سلّة من قنافذ البحر على عربة

عند النظرة الأولى، لا يبدو شيءٌ أقلَّ شبهاً بيودوكسيا من تصميم هذه السجّادة المخطّط بوحداتٍ متماثلة تتكرّرُ أنساقُها على امتدادِ خطوطٍ مستقيمة ودائرية، تتناسجُ مع قِمَمٍ مستدقّة ملوّنة تلويناً بارعاً، في تكرارٍ يمكن متابعته عبر النسيج كلّه. ولكنْ إذا تأنّيتَ وتفحّصتَها بعناية، ستقتنع أنّ كلّ مكان في السجادة يتوافق مع مكانٍ في المدينة، وأن كلّ ما تحتويه المدينة من أشياء متضمّنٌ في التصميم، منظّمٌ وفق علاقاته الواقعية، تلك التي تُفلت من عينك وقد صرف انتباهَها الصخبُ والزّحام والتدافع. كلُّ تشوّش يودوكسيا، نهيقُ البغال، لطخاتُ السناج، رائحةُ الأسماك، هو الجليُّ في المنظور الناقص الذي تتمسّك به؛ ولكنّ السجّادة تُبرهن على أن هناك نقطة تُظهر منها المدينة نِسَبَها الصحيحة، تُظهر المخطّطَ الهندسيَّ الضمنيَّ في كلّ تفصيلٍ من تفاصيلها مهما كان بالغ الصِغَر.

من السهل أن تضيع في يودوكسيا، ولكن حين تركّز وتحدّق في السجّادة، ستتعرّف إلى الشارع الذي كنتَ تبحث عنه، في خيطٍ قرمزيّ أو نِيليّ الزرقة أو أحمر ضارب للأرجوانيّ، يأخذكَ بدورةٍ واسعة إلى سياج أرجواني هو غايتُك الحقيقية. كلّ ساكن من سكّان يودوكسيا يقارن نظام السجّادة الصامت بالصورة الخاصّة به عن المدينة، بكَرْبه الخاصّ به، وكلّ واحد منهم يمكنه أن يجد، ضمن ما أُخفي بين الزخارف العربيّة، جواباً، قصّةَ حياته، تقلّبات القدر.

سُئل عرّافٌ عن الرّباط السرّي بين شيئين لا يتماثلان إطلاقاً، مثل السجّادة والمدينة. أحد الشيئين ــ أجاب العرّافُ ــ له الشكل الذي منحته الآلهة للسماء المزدانه بالنجوم والمدارات التي تدور فيها العوالم؛ الشيء الآخر هو انعكاسٌ له تقريبيٌّ مثل كلّ خلقٍ بشريّ.

لقد ظل الكهنة ردحاً من الزمن واثقين من أن نسق السجّادة المتناغم كان ذا أصلٍ إلهيّ. وبهذا المعنى تمّ تفسير قول العرّاف، من دون أن يثير أمراً خلافياً. ولكنْ بإمكانكَ، وعلى نحوٍ مشابه، الوصول إلى استنتاج معاكس: إنّ خريطة الكون الصحيحة هي مدينة يودوكسيا، تماماً كما هي، لطخةٌ تنتشر بلا شكل، بشوارع معوجّة، ببيوت ينهار أحدها فوق الآخر وسط سُحبٍ من غبار، نيران، صرخات في الظلام.


* ترجمة: محمد الأسعد

المساهمون