يُتيح "بيت السنّاري" الواقع في منطقة السيّدة زينب بالقاهرة، برنامجاً صيفياً للأطفال والناشئة بعنوان "صنّاع الغد"، يقدّمه ويشرف على إعداده المُترجم المصري محمّد رمضان، يقوم فيه بقصّ الحكايات الشعبية في لقاء أسبوعي طوال أشهُر الإجازة الصيفية، بهدف تعميق العلاقة بين هؤلاء الأطفال وتراث بلدهم. وفي جدول أيلول/ سبتمبر الجاري، يتركّز النشاط حول حكايات تفاعلية عن البيوت الأثرية الشهيرة وسيرة ساكنيها ومن مرّوا بها، وكذلك على حكي سيرة القائد المملوكي الظاهر بيبرس.
"بيتُ السنّاري" نفسُه هو واحد من البيوت الأثرية القيّمة من الفترة المملوكية، أنشأه إبراهيم كتخدا السنّاري، وكان من أثرياء القاهرة، وأنجز بناءه عام 1794، وقد عاصر البيت أحداثاً مهمّة؛ لعلّ أبرزَها أنّه صُودر من قبل الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، واتُّخذ مقرّاً لبعض أعضاء لجنة العلوم والفنون ضمن الحملة، وكانت غالبيّتُهم من الرسّامين والمُصوّرين، لذا يُعتبر البيت بيئةً خصبة لمعايشة حكايات الماضي في تجلّياته المختلفة. وهو الأمر الذي يوافق عليه رمضان، قائلاً، في حديث إلى "العربي الجديد"، إنّ الغرض من تنفيذ ورش الحكي داخل مواقع أثرية هو "تعميق الصلة بين الأطفال وهذه الأماكن التراثية التي يجهلون تاريخها".
تعزيز علاقة الطفل بتاريخ بلده دون تلقين أو توجيهات مباشرة
يبدو اهتمام رمضان بالأطفال والنشء جَليّاً من بعض الترجمات الكثيرة التي قدّمها، وفيها نصيبٌ وافر من الأعمال المقدَّمة للصغار، كالقصص الشعبية العالمية وكتب تبسيط العلوم. من النوع الأوّل مثلاً كتاب "الناي الذهبي" وهو حكاية شعبية من ألمانيا، و"عصفورة تبيض ذهباً" حكاية شعبية من سويسرا، ومن كُتب تيسير العلوم: "سوف نعرف، كيف غيّر عالم رياضيات القرن العشرين" من تأليف جيورج فون فالفيتس، و"عصر الضبابية، سنوات الفيزياء الساطعة والمُظلمة" من تأليف توبياس هورتر، وهي نماذج قليلة لما قدّمه للأطفال.
في جلساته الحكائية، يلتقي رمضان بالأطفال صباح الأحد من كلّ أسبوع، حيث يتجمّع الأطفال حوله في حلقة دائرية، كما في طريقة كتاتيب حفظ القرآن قديماً، ويقول إنّ هذه الطريقة فيها من الألفة ما يسمح بكسر حالة الملل لدى الأطفال من طريقة التلقين التقليدية، كذلك فإنّه لمقاومة الملل عند الأطفال يعتمد طريقة تفاعُلية في النشاط، إمّا عبر جعلهم يُعيدون رواية الحكاية بعضهم لبعض كلٌّ بطريقته، أو باستخدام الرسم والتلوين لرواية الحكاية بشكل مصوَّر. ويعلّل رمضان ذلك قائلاً: "بهذه الطريقة نسمح لخيال الأطفال بالنموّ وإقامة علاقة مع تراث يختلط فيه الواقع بالخيال أصلاً".
لا يعتمد رمضان في حكاياته على رافد واحد من التاريخ المصري الطويل، بل يحاول إبراز التنوّع الكبير في مسيرة هذا التاريخ، فقد بدأ حكاياته مثلاً بقصّة "سندريلا المصرية"، وأعقبها برواية تاريخ حجر رشيد وفكّ رموز اللغة المصرية القديمة، ومنح الأطفال فرصة كتابة أسمائهم باللغة الهيروغليفية داخل خراطيش ملكية على الطريقة الفرعونية، كانت معدَّة سلفاً.
وفي أيلول/ سبتمبر، يقصّ على مجموعة عمرية من 6 إلى 12 عاماً "حكايات بيت الكريتلية" المعروف بـ"متحف جاير أندرسون"، وهو في منطقة السيّدة زينب كذلك، ومجموعة عمرية أكبر من 12 إلى 16 عاماً يحكي معهم سيرة السلطان المملوكي الظاهر بيبرس البندقداري (1223 - 1277)، حسب الرواية المصرية، في عدّة جلسات يعتمد فيها سرداً مختصَراً ومبسَّطاً، مع إضافة ملامح من سمات الحياة في العصر المملوكي، كالأكلات المشهورة والأشربة وشكل الملابس والأسلحة والجوامع والبيوت. ويقول رمضان إنّ غرضه من ذلك "ربط الأطفال والناشئة بطبقات هويّتنا المتعدّدة، وبتداخل هذا النسيج التاريخي الكثيف في حياة المصريّين".
كان المترجم المصري قد بدأ حكاياته في "بيت العيني" القريب من الجامع الأزهر، ثم أقنع إدارة "مكتبة الإسكندرية" التابع لها "بيت السناري" بمشروعه الحكائي، والذي بدأ فيه منذ حزيران/ يونيو الماضي ويستمرّ حتى نهاية الشهر الجاري. وبمساعدة القائمين على البيت، فإنّه يجعل من حكاياته مساحةً ومسرحاً لتواشُج الخيال الشعبي بالتاريخ، لتثبيت الحكايات في أذهان الأطفال، وتعزيز علاقتهم بتاريخ بلدهم في طبقاته المتعدّدة، دونما تلقين أو توجيهات مباشرة.