محمد العنقى: موسيقى أندلسية في المقاهي الشعبية

23 نوفمبر 2020
العنقى في عمل لـ مصطفى بوطاجين، 1994
+ الخط -

عندما بحث الفتى محمد إيدير آيت أوعراب عن اسمٍ فنّي له، لم يَجد أفضلَ من اسمِ "العنقاء"، الطائرِ الخرافي الذي ينبعث من رماده أجملَ ممّا كان. وبالفعل، لا يزال صوت محمد العنقى (1907 - 1978) وتجربته الموسيقية الرائدة ينبعثان في كلّ عصر، وقد مرّت على رحيله اثنتان وأربعون سنة.

كان "العنقى" في الأصل لقباً أطلقه عليه معلّمُه الشيخ مصطفى الناظور (1874 - 1926)، أحدِ أقطاب "الأغنية الحضرية" الآتية من التراث الموسيقي الأندلسي، والذي ضمّه إلى فرقته الموسيقية وهو لا يزال طفلاً، وأُعجب بسرعة تعلُّمه الموسيقى التي بدأها ضارباً على الدفّ ثمّ عازفاً على العود، وسط معارضةٍ شديدةٍ من والده.

تولّى العنقى، الذي تمرُّ ذكرى رحيله اليوم، قيادةَ الفرقة بعد رحيل الناظور، وحصل على لقب "شيخ" وهو لا يزال شاباً. وفي العام 1930، وبينما كانت فرنسا تُقيم احتفاليةً كبيرة بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر، كان الشاب العشريني يُفكّر في كيفيةٍ للخروج مِن جلباب عرّابه الفني، فابتكر نوعاً موسيقياً جديداً أنزل من خلاله الأغنية الأندلسية من مجالس الأغنياء والحكّام إلى المقاهي الشعبية، ومن ذلك استمدّ تسميته "الشعبي".

قلّد كثيرٌ من الفنّانين طريقة أدائه حتى كاد أن يتحوّل إلى صنم

وبطريقته الخاصّة، راح العنقى، الذي وُلد في حي القصبة بالجزائر العاصمة لأُسرة مِن بني جنّاد في ولاية تيزي وزو شرق العاصمة، يجمع تراث كبار الشعراء الشعبيّين في الجزائر والمغرب الأقصى، ويُؤدّيها في إطارٍ موسيقى مستوحىً من التراث الأندلسي، لكن بروح عصره، مستعملاً آلات موسيقية لم يكن سادة الأغنية القديمة يسمحون بها؛ مثل الماندولين القادمة من الفضاء المتوسّطي والبانجو والبيانو.

وفي وقتٍ وجيز، تحوّل إلى ظاهرةٍ جديدة في الموسيقى الجزائرية، بأسلوبه الفنّي المبتكَر، وطريقة إلقائه، وحتى بأسلوب لباسه والطرائف التي كان يرتجلها في مجالسه الخاصّة.

وهذه التجربة أثراها بجانب أكاديمي؛ إذ التحق بـ "معهد سيدي عبد الرحمن للموسيقى" الذي درس فيه لخمس سنوات، قبل أن يسجّل في دار الإذاعة عشرات الأغاني التي حقّقت نجاحاً كبيراً في تلك الفترة، ثمّ تولى قيادة "الفرقة الموسيقية الشعبية" في الإذاعة الجزائرية، وكُلّف بتعليم الموسيقى فيها، وفي عام 1955 التحق بالمعهد البلدي؛ حيث تتلمذ على يديه العديد من الفنّانين البارزين.

ولم يكن العُنقى، بضمّ العين كما ينطقه سكّان مدينة الجزائر، مجرّد فنان عابر؛ فقد شكّل وما يزال، بعد أكثر من أربعين سنة على رحيله، ظاهرةً فنية واجتماعية تثير الإعجاب، مثلما تثير الجدل. وقد أصبح كثير من المطربين في الجزائر العاصمة وفي غيرها من المدن، يقلّدونه في طريقة أدائه، حتى كاد أن يتحوّل إلى "صنم"، ومن بين الكثير من المطربين الذين ساروا على طريقه، لم ينجح إلّا الذين انتبهوا إلى تلك العقبة وأدّوا الأغنية الشعبية بطريقتهم الخاصة، لا بطريقته هو، ومن بينهم فنّانون سيصنعون "ثوراتٍ" صغيرة داخل ثورته الموسيقية الكبيرة التي صنعها في عشرينيات القرن الماضي.

الأرشيف
التحديثات الحية
المساهمون