مثقّفو الجزائر... حضورٌ في الشكليّات ليس أكثر

22 فبراير 2021
من تجمّع في الجزائر العاصمة للمطالبة بالإفراج عن الصحافي خالد درارني، صيف 2020 (Getty)
+ الخط -

سرعان ما انتبه الجزائريّون إلى غياب الرياضيّين عن الحَراك الشعبي الذي انخرطت فيه فئاتٌ مهنية مختلفة من المجتمع؛ مثل القضاة والمحامين والصحافيّين الذين كانت لكلّ فئة منهم وقفاتها الاحتجاجية الخاصّة، والطلبة الذين اتّخذوا من كلّ ثلاثاء يوماً للتظاهر، وقد تجاوز جميع هؤلاء الشعارات المطلبية التي تدعو إلى تحسين ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية إلى مطالب تصبُّ في روح الحراك نفسه؛ مثل تحرير القضاء والصحافة والتأسيس لدولة القانون والمؤسّسات.

كان لافتاً، ألّا نجد انتباهاً لغياب المثقّفين، من كُتّاب وأكاديميّين، ليس فقط عن الشارع، بل عن مواكبة الحَراك بالتعليق والتحليل وتقديم الأفكار والمقترحات. وحدهم بعض الفنّانين اعتبروا الحراك مساحة تعبير إبداعي، فأثّثوا الشارع بالغناء والمسرح وبعض اللمسات التشكيلية. أمّا البقية، فقلّةٌ فقط بدا عليها الانشغال بالحراك، على الصعيدين الفكري والميداني، وهي تُعدّ على أصابع اليد الواحدة.

لكن اللافت أننا لا نجد أيّ "تحسُّر" شعبي على غياب المثقّفين، بل لعلّنا نجد ارتياحاً حيال هذا الغياب، فالقطيعة واضحة بين معظم شرائح الشعب والمثقف الجزائري الذي يبدو في صورته الغالبة قريباً جدّاً من السلطة، حتى أنَّ السواد الأعظم من المواطنين يكاد يضع النخب السياسية والثقافية في سلّة واحدة. وتبعاً لذلك يُصبح الحراك مضادّاً للمثقفين أيضاً، حتى إذا كانت الحاجة إليه أكبر من الحاجة إلى الرياضيّين، فمِن أدوار المثقف أن يُقدّم تغطية "علوية" في منعطفات تاريخ بلده، بما لديه من عُدّة معرفية ونظرية.

يمكن التقاط استقالة المثقّف من دوره مسانداً لقضايا الشعب

أتى تفاعل المثقّفين مع الحراك بارداً بعض الشيء، وكأنه يُؤكّد الصورة المرسومة عنهم في المخيال الشعبي. أبرز ما يمكن التقاطه هو استقالة المثقّف من دوره مسانداً لقضايا الشعب. لن تخطئ العين تلك الحالة السائدة من إعفاء الذهن من الاشتباك مع إشكاليات الجزائر ومتغيّراتها المستحدثة. لنْ نجد على أرض الواقع غير مجموعات ضيّقة من المثقّفين تتناقش داخل قاعات مغلَقة، ولا تصدُر منها مواقف حتى أمام التجاوُزات الكثيرة التي لم تتوقّف السلطةُ عن ارتكابها طيلة سنتَين.

ظاهرياً، تبدو هذه السلبية متناقضة مع ذلك الكمّ الكبير مِن الكُتب التي بدأت دور النشر تُصدِرها منذ أشهر الحَراك الأولى، فتوحي بأن هناك مساهمة من المثقّفين في ما يحدث في البلاد. غير أن الأمر لا يعدو أن يكون محاولات ظهور في المشهد مِن دون تقديم أي إضافة، ولا نجد فيها حسماً في أيّ من القضايا الكثيرة التي أثارها الحَراك، بل إن كثيراً من تلك الكُتب تحمل تواقيع أسماء لم يسبق أن سُمِع لها رأيٌ أو صوتٌ حول الشأن العام.

كان من الطبيعي، إذن، أنْ يُنظَر بارتيابٍ إلى "مجتمع المثقّفين"، أوّلاً بسبب هذا الانغلاق الذي لا يواكب جوهر الحراك الشعبي، وثانياً للطابع الاحتفالي للكثير من المشاركات الثقافية التي تستغبي "العامة"، خصوصاً حين تشير إلى حدوث نقلة، في حين أنَّ المطالب الأساسيةَ لم تتحقَّق بعد (وربما لن تتحقّق في المدى القريب). هكذا جعل الخطاب الثقافي من الحراك لحظة فولكلورية ومناسِبةٍ لاقتناص الصُّوَر والقصص ليس إلّا.

وما من شكّ في أنَّ غياب الأصوات النقدية سمح ببروز صوت "مثقّف السلطة" الذي بات الضيف المفضّل لوسائل الإعلام الحكومية والخاصّة، وهو نوعٌ من المثقّفين لا دور له سوى التبرير للسلطة وتجاوُزاتها، وإلى هؤلاء انضمّت أسماء جديدةٌ بعد الحَراك كان لبعضها مواقف راديكالية مِن السلطة قبل أن تُغيِّر خطابها. يكفي أن نذكُر هنا الأستاذة الجامعية مليكة بن دودة التي كانت تدعو في منشوراتها إلى رحيل جميع رموز النظام، والممثّل يوسف سحايري الذي كانَ يُشارك في المظاهرات ويكتب بأنه لا يعترف بعبد المجيد تبّون رئيساً. تغيّر الأمر فجأةً، إذ أصبحت الأولى وزيرةً للثقافة والثاني كاتب دولة مكلّفاً بالصناعة السينماتوغرافية. ألا يزيد كل ذلك في خلخلة العلاقة بين المجتمع ومثقّفيه؟ وكيف يمكن أن نتوقّع مستقبل مجتمعات لا أحد ينير لها الطريق؟ الأمر لا يعني الجزائر وحدها، بل ربما مجمل البلاد العربية.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون