ما زلنا في الغابة

27 يونيو 2022
محمد عباس/ سورية
+ الخط -

تاريخ علاقة "الزعيم" بـ"الرعيّة" يحفر عميقاً في تاريخ الأنواع. وحتى بعد قرون من تفكيك ونقد معنى "الزعيم"، ونقد جدوى هذا الدور لدى شعوب وثقافات قطعت شوطاً في الاستغناء عنه، وحتى مع افتراض أننا قد قطعنا هذا الشوط ــ في الثقافة والعلم على الأقل ــ يبقى في الواقع أنّ تجاوب الأفراد والجماعات تجاه "الزعيم" ما زال كما كان دائماً: منشأً لنزاعات دموية. فالأتباع لا يستغنون عن "الزعيم" ولا يسمحون باستباحته أو نقده، ناهيك عن تنحيته أو إقالته أو إعدامه أو إحالته إلى التاريخ.

يستمدّ الزعيم نسَبه الأشدّ بدائية، الأشدّ إيغالاً في عِلم الأنواع، من مفهوم الذكر المهيمِن (alpha male)، الذي يشير إلى الذكر الأقوى في القطيع أو المجموعة، سواء كانت قبيلة بشرية أو سربَ ذئاب أو غوريلات أو غيرها من الأنواع. والآليّات التي تجعل كلّ شخصٍ يحدّد موقفه ــ حبّاً أو كرهاً ــ من "الزعيم"، تنتمي في أصولها إلى الآليات التي تحدّد موقف كلّ فرد في جماعة الغوريلا من الذكر المهيمن، وذلك يعتمد أساساً على قراءة الوجوه والحركات والسلوك.

صحيحٌ أنّ هذه الآليات صادفت عند الإنسان والتقت بمواقف تحليلية واعية، من برامج اقتصادية وسياسية وفكرية، ونمط ثقافي، لكنّ قسماً منها (ذلك القسم الذي يصعب تفسيره) ما زال يعود إلى آليات استقراء جماعة الغوريلا لـ"الزعيم": قراءة الوجوه والحركة والسلوك. وهو ما يُسمّى في لغتنا المعاصرة: كاريزما الشخصية، أو غيابها.

دائماً ما تكون "قوميّتي" أجمل القوميات وأعلاها وأنقاها

هناك أيضاً المنعكسات غير الواعية: الآليات العميقة في تاريخ النوع، التي تسمح بقراءة الشخصيّات بمجرّد التأمّل فيها والنظر والإنصات إليها، وهو ما أسماه قدماء العرب: الفِراسة.

يتّصف الذكر المهيمن بأنه الأقوى، الأشدّ إرهاباً، والذي له أن ينال من الآخرين، أن يُعاقب أو يكافئ الجميع. وبالنسبة إلى البشر، تضاف إلى ذلك صفاتٌ مثل: العادل، المهيمِن، المخلّص، المنقِذ، المُلهم... مفاهيمٌ قد لا تكون موجودة فعلاً لدى الذئاب وغيرها من الأنواع، بحسب مفهومها المحتمل للعادل، والمخلّص، والمنقذ...

لا يزال الهتاف للزعيم، والإخلاص له، وحتى الذهاب إلى الموت من أجله، يطبع عميقاً سلوك الجماعات البشرية، حيث يختلط الأمر مع مفاهيم كالعدل والحقّ والقومية، وهي مفاهيم تُنتج وتعيد إنتاج مقولاتٍ من قبيل: القومية الأعلى، المختارة، أو الدين والطائفة الناجية، تلك التي هي دائماً على "حقّ".

ثمّة دائماً في الخلفية هذا المفهوم عن "القومية المختارة"، التي هي "أجمل القوميات"، أو عن الدين الذي هو "أرقى الأديان"، وغالباً ما تُستخدم في تأكيد ذلك مفاهيم مثل "الموضوعية" و"الحياد العِلمي". دائماً ما تكون "قوميّتي" أجمل القوميات وأعلاها وأنقاها، وكذلك حال "طائفتي"... ذلك فقط لأنها قوميّتنا وجماعتنا، وثمّة زعيمٌ على رأسها.

إن كنّا خرجنا من الغابة في بعض المفاهيم، فمن الواضح أيضاً، في مفاهيم أُخرى، أننا ما زلنا هناك، في الأماكن الأشدّ تأخّراً...


* شاعر سوري مقيم في باريس

موقف
التحديثات الحية
المساهمون