ما العالمية؟

26 يوليو 2024
غابرييل غارسيا ماركيز في إيطاليا عام 1982 (Getty)
+ الخط -

كان السؤال عن العالمي في الرواية، ولا يزال، شاغلاً للعديد من القرّاء، والنقّاد أيضاً، فما إن يُترجَم كاتب ما إلى لغة أو لغات أُخرى، حتى تجد من يبارك له انتقاله، أو بداية انتقاله، إلى العالمية. فهل تَعني العالمية الانتشار، أم هي وصفة مضادّة، أو أكثر رقيّاً من الوصفة المحلّية التي تترك بعض الكتابات مهمَلة، من دون أن تُترجَم وتنتشر؟

قليلةٌ هي الروايات التي حازت الأهمّية والشهرة، دون أن تكون مخضَّبة بلحم الواقع وعظمه، يمكن القول إنّها نادرة، أو غير موجودة، باستثناء روايات الخيال العلمي، أو الروايات الخيالية التي تخاطب الأطفال. وعدا ذلك، يبدو الواقع هو العنصر الذي يمنح الروايات نكهتها الخصوصية التي تعني المكان واللغة والعادات والتقاليد وأشكال العلاقات بين الناس، في أيّ حكاية.

يتحرك الروائي الأميركي وليم فوكنر في مساحة جغرافية واحدة مخترعة، هي يوكناباتاوفا، تضمّ مدناً وقرى عديدة، ولسكّانها تقاليد محدّدة، يكتبها الروائي، ويعيد كتابتها، رواية بعد أُخرى، ولا يمكن أن تقول عن رواياته غير أنّها رواية محلّية، بل هي تغرق في محلّية غامضة تضع أمام المترجمين غير العارفين بالمكان وعاداته مشاكل في الترجمة، يمكن أن تؤدّي إلى أخطاء في فهم العبارات. لا يختلف ماركيز الكولومبي كثيراً عن هذه الخطّة، والراجح أنّه متأثّر إلى أبعد الحدود بخطّة فوكنر، ولديه مساحة محلّية مخترَعة أيضاً هي ماكوندو التي صنع لها تقاليدها الخاصّة المحلّية التي ستكون علامة من علامات الخصوصية في التأليف الروائي.

لا تأتي عالمية النصّ الروائي من الترجمة، بل من النصّ نفسه

فتقاليد البشر في رواية ماركيز تتكرّر في معظم أعماله، وهُم لا يخرجون غالباً من الجغرافيّة التي ابتكرها، ومثلهما الروائي العراقي غائب طعمة فرمان، ولفرمان خصوصية فريدة، وهي أنّه عاش بعيداً عن بلده، ولكن رواياته، مثل "خمسة أصوات" أو "النخلة والجيران" أو "آلام السيّد معروف" وغيرها، مشبعة بالواقع العراقي، وربما كان "السيّد معروف" من أكثر الشخصيات الروائية في الأدب العربي تعبيراً عن الواقع الذي يعيش فيه، وهو هنا واقع العراق في الزمن الذي تُشير إليه الرواية، بكلّ خصوصيته وفرادته، ولكن بكلّ ما يشترك به مع الإنسان في جميع الأمكنة، وهو ينتسب بقوّة إلى سلالة الشخصيات البارزة في الأدب العالمي.

وتمنح المحلّية في رواية الصيني مو يان، "الذرّة الرفيعة الحمراء"، النصَّ عالميته، تقرأ الرواية فنّاً قائماً على استخدام التقنيات المعروفة في الرواية العالمية، ويستعير الروائي الصيني تقنيات رواية أميركا اللاتينية السحرية، وخصوصاً لدى ماركيز، من دون أن يفرط بالخصوصيات الصينية، إذ تقرأ روايته بوصفها الصورة المتخيّلة لريف الصين، ولعادات الناس هناك، ولطبيعة تفكيرهم، وتفاصيل حياتهم. وهو أحد أسباب الاهتمام العالمي بها.

ويمكن للسؤال أن يضعنا في قلب مسألة هوية الكتابة والفن. فعالمية كلُّ واحد من هؤلاء الروائيّين لا تأتي من الترجمة، بل من النصّ نفسه. وهذا هو ما يخلق الفارق بين النظرية والتنفيذ: يمكن للنظرية أن تتحدّث عن القواعد والشروط التي تميل إلى التجريد، غير أنّ الرواية نفسها، أي هذه الرواية أو تلك، هي التي تُجسّد تلك الشروط، وتصلح، أو لا تصلح، لأن تكون عالمية.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون