يفتح الباحث الفلسطيني، ماهر الشريف، في كتابه الجديد "المثقّف الفلسطيني ورهانات الحداثة (1908 - 1948)"، الصادر حديثاً عن "مؤسّسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت، بوّابةً تكاد تكون مجهولة على التاريخ الثقافي الفلسطيني، ويُطلّ على أربع زوايا فيه، تكاد تكون مجهولة أيضاً؛ هي الثقافة والمجتمع، وتنازع البقاء، والهوية، وبلوغ الحداثة. هذه الرهانات، أو التحديات حسب الباحث، هي التي واجهها المثقّف الفلسطيني على مدى أربعين عاماً منذ مطلع القرن العشرين وحتى النكبة في عام 1948.
الكتاب ثريّ بالمعلومات الغائبة أو المغيَّبة حتى عن الوسط الثقافي الفلسطيني، ويثير في الذهن سؤالاً لا يقلّ أهمية عمّا سبق؛ عمّا تختزنه بقية صفحات هذا التاريخ بعد النكبة وصولاً إلى الزمن الراهن، لأنّ المثقّف الفلسطيني الذي كان سباقاً في مضمار الحداثة والتحديث لم يوقفه استعمار فلسطين وتشتيت شعبها عن مواصلة المساهمة في إثراء حركة الحداثة العربية في شتى المجالات، ليس السياسية والاجتماعية والاقتصادية فقط، بل والأدبية والفنية في كل مكان حلّ فيه.
منطلق الباحث كانت ثقته بسلامة مقاربة المفكّر القومي قسطنطين زريق للعوامل التي أفضت إلى النكبة في كتابه "معنى النكبة" الصادر عام 1948، والذي يُعدّ أبرز علامة فكرية فلسطينية على الطريق الممتدّ حتى الزمن الراهن. تلك العلامة التي نظرت إلى النكبة منذ البداية بصفتها تفوُّق نظام حديث على نظام تقليدي، وأنّ الخطر الصهيوني لا يُدفع إلا بكيان عربي متّحد، يأخذ بأسباب المدنيّة الحديثة ويتسلّح بقواها وذهنيتها المتطوّرة. في ضوء هذا، وضع الباحث نصب عينيه هدفاً؛ أن يعرف "ما إذا كانت فلسطين قد افتقدت مشروعاً مجتمعياً حداثياً فعلاً، أم أنها عرفت هذا المشروع ولكنّه لم يوضع موضع التطبيق لأسباب موضوعية وذاتية، تتعلّق الأولى باختلال موازين القوى الكبير بين الشعب الفلسطيني من جهة، وقوى الاستعمار والصهيونية من جهة أُخرى، وتتعلّق الثانية ببنية المجتمع الفلسطيني التي حافظت على طابعها التقليدي، وبالطبيعة الاجتماعية للقيادة التي هيمنت على الحركة الوطنية الفلسطينية".
تُسجل للمثقف الفلسطيني أسبقيته في الدعوة إلى ثورة فكرية
للإجابة عن هذا السؤال، يتمحور البحث حول دور المثقّف الفلسطيني بوصفه حاملاً لقدر من التعليم الحديث ورسالة في الحياة، والذي قرّر توظيف المشروع الفكري الحديث في التصدّي للمشكلات التي يواجهها شعبه وتصوُّر حلول لها. أمّا الرهانات حسب الباحث، فهي التحدّيات التي واجهها هذا المثقّف في سعيه لتمكين هذا المشروع الفكري في مجتمعه. وبتوجيه الباحث جهده ليكون جزءاً من حقل تاريخ الأفكار لا نقدها، يأخذ باستكشاف مواقف المثقّفين الفلسطينيين تجاه "رهانات الحداثة"، أي تحدياتها "باستنطاق النصوص التي خلّفوها لنا، وإدراجها في سياقاتها التاريخية من دون التصدي لها أو محاكمتها".
فرضية الباحث التي يختبرها في عشرة فصول هي "أن فلسطين عرفت مشروعاً فكرياً حداثياً، حمله مثقّفون فلسطينيّون تأثّروا بأفكار روّاد النهضة العربية، واحتكّوا بالثقافات الأوروبية الحديثة، إمّا عن طريق الإرساليات الأجنبية في فلسطين، أو عن طريق الإقامة والدراسة في الجامعات الأجنبية، أو عن طريق الترجمة، ووضعوا لهم هدفاً رئيسياً هو نقل مجتمعهم من التقليد إلى الحداثة لكي يتمكّن من كسب تنازع "البقاء" الذي فرض عليه". ومن هنا اتّجهت فصول الكتاب إلى الإجابة عن السؤال: ما هي ملامح هذا المشروع الفكري الحداثي، وما هي الرهانات (التحديات) التي واجهها المثقّفون الفلسطينيّون الذين ظهروا على مسرح الأحداث آنذاك؟".
يتناول الفصل الأول تكوين المثقّف الفلسطيني، ويكشف عن أنّ ولادة المثقّف الحديث في بلاد الشام، وضمنها فلسطين، ارتبطت بجملة من التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر، جرّاء تنامي العلاقات بينها وبين أوروبا، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، والحملة المصرية على بلاد الشام، وسياسة الإصلاحات العثمانية التي عُرفت باسم التنظيمات. ويخلص إلى سمات مميّزة لهذا المثقّف تمثّلت في العقلانية والعلمانية والنزعة الإنسانية الواضحة، والدعوة إلى التسامح والمحبة.
في الفصل الثاني، يتناول الباحث الحداثة كما فهمها هذا المثقّف، والنصوص التي رصد فيها أسباب تخلُّف مجتمعه، والتعرُّف على سبل تقدُّم الغرب، وإباحة اقتباس هذه السبل، ولكن "على قاعدة الاقتباس المشروط وليس التقليد الأعمى"، وفضحه للوجه البشع للغرب (أو الوجه المظلم للحداثة الغربية بتعبير مثقّفي أميركا اللاتينية المعاصرين)، الممثَّل بالظاهرة الاستعمارية. وأبرز ما في هذه النصوص هو الإعجاب بنهضة الشرق والدعوة للتمثّل به، وهي دعوة نبوئية مبكرة جداً نسبة إلى الدعوة الراهنة إلى الاتجاه شرقاً.
لم يوقف استعمار فلسطين إسهام مثقفيها في الحداثة العربية
ويتناول الفصل الثالث الصحافة كوسيلة تعبير رئيسية عن الأفكار الحداثية، وقمع سلطات الاستعمار البريطاني للحريات الصحافية والفكر المقاوم. ويُسجّل الباحث للمثقّف الفلسطيني سبقه في مضمار الدعوة إلى "الثورة الفكرية" منذ عشرينيات القرن العشرين، الممثّلة بالدعوة إلى "قلب النظم القديمة رأساً على عقب، وهدم ما بنته الأجيال من أسوار الظلم والعبودية والذل والخنوع"، والأكثر أهمية "تعليم الأمّة أنها ليست عبدة لأبناء العائلات القديمة التي كانت السبب الأكبر في إيصال الأمّة إلى هذه الدرجة من الانحطاط والضعف".
التصدّي للصهيونية والتحذير من مخاطر مشروعها منذ أواخر العقد الأوّل من القرن العشرين هو موضوع الفصل الرابع. والشاهد على ذلك صفحات صحيفة "الكرمل" لنجيب نصار، و"النفائس العصرية" لخليل بيدس، ومخطوطة محمد روحي الخالدي عن المسألة الصهيونية. وفي هذا السياق حذّرت "الكرمل" العثمانيّين من مخاطر فتح أبواب فلسطين أمام الصهاينة والسماح لهم بشراء الأراضي، مع ملاحظة أن المثقّف الفلسطيني وقف ضد الصهيونية وليس ضد اليهود.
ويتناول الفصل الخامس وعي المثقَّف بالدوافع البريطانية وراء إصدار "تصريح بلفور"، ورهانه في فترة مبكرة على إمكانية تراجعها عنه، ثم خيبة أمله، وانتقاله إلى فضح سياساتها الاستعمارية وممارساتها في فلسطين (التي فاقت حسب شهادة باحث بريطاني الوحشية النازية، وهي شهادة كان من الممكن أن يعتمد عليها الباحث في تعليل سبب الوقوف الفلسطيني ضد الاحتلال البريطاني بالقوّة المسلّحة، وليس بالمقالات الصحافية المثقّفة فقط). وكان من الضروري التوسُّع في التأريخ للموقف من الاحتلال البريطاني لفلسطين، ذلك الاحتلال الذي كان حجر الزاوية في إقامة الاستعمار الصهيوني، وعدم الاكتفاء بالإشارة إلى ثلاثة تيارات عشية الحرب العالمية الثانية، الأول الذي دعا إلى الوقوف إلى جانب بريطانيا على أمل "أن تعامل العرب على قدم المساواة" بصفتهم "الحلفاء" و"الحرّاس الشجعان" لمصالحها، والثاني الذي تفهَّم توجُّه الحركة الوطنية الفلسطينية إلى التحالف مع الدول المناهضة لبريطانيا، والثالث الذي اتَّخذ، كما يقول الباحث، "موقفاً حازماً في مواجهة النازية والفاشية". وهنا يمكن أن يُسأل الباحث: ألم يكن ثمّة موقف ثقافي متميّز عن هذه التيارات الثلاثة؟ موقف وقفه مثقّفون مستقلّون داعين إلى عدم الوثوق ببريطانيا، ومواصلة القتال ضد احتلالها لفلسطين بوصفه رأس حربة المشروع الصهيوني؟
وتتوالى بقية فصول الكتاب، فالسادس يسلّط الضوء على المعاني التي حمّلها المثقّف لمفاهيم الوطن والوطنية والوحدة الوطنية. ويتناول السابع مقاربة المثقّف للظاهرة الدينية، وتصدّيه لمحاولات توظيف الدين في زرع بذور التفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وينصرف الثامن إلى إظهار أنّ العروبة كانت أحد أبرز مكوّنات هوية المثقّف الذي ناضل من أجل التضامُن والاتّحاد العربيَّين، وحذّر من مخاطر التجزئة، وكان سبّاقاً إلى تصوُّر وحدة تشمل المشرق والمغرب العربيَّين. ويُبرز هذا الفصل الدعوة إلى "عروبة ذات طابع شعبي معادية للاستعمار".
ويُلقي الفصل التاسع الضوء على التحدّي الذي يُمثّله تحقيق الحداثة، فيتناول أهمّ وسيلتَين هما التعليم والتربية. ويدور الفصل العاشر حول مفهوم ما يُسمّيه الباحث "الوطنية العملية" (أو الوطنية بالممارسة)، وهي التي "بشّر بها المثقّف الحديث، بدعوته إلى تنظيم الشعب وتعبئة طاقاته وموارده البشرية والاقتصادية، والتركيز على العمل المنتج، والاكتفاء الذاتي، والحفاظ على الأرض، وفضح الذين يتجرّأون على بيع أراضيهم للمؤسّسات الصهيونية.
بعد كل هذه الفصول التي تكاد تكون ملمّة بجوانب التحدّيات الأربعة التي أشار إليها منذ البداية، يخلص الباحث بعد تلخيص ما عرضه إلى أنَّ هذا "المشروع الحداثي الذي حمله المثقّف الفلسطيني"، والذي افترض وجوده منذ مطلع القرن العشرين، ثمّ برهن على وجوده باستنطاق ما خلّفه المثقّفون، اصطدم في الواقع بعدّة معوقات على رأسها حسب الباحث:
أوّلاً: بنية مجتمع حافظ على الرغم من بعض مظاهر التحديث (البرّاني) على طابعه التقليدي، ووقفت على رأس حركته الوطنية قيادة سياسية تشكّلت من اندماج بين مُلّاك عقاريّين وتجّار وعائلات متنفّذة في المدن "مارست تأثيراً شبه مطلَق على السكّان" بقيادات ظلّت "متوارَثة" و"معطاة"، أي متكلّسة لا حيوية فيها، أبقت على هذا الطابع التقليدي.
ثانياً: استعمار بريطاني (وليس انتداباً كما درج التقليد على تسميته) سعى إلى ضمان مصالحه، وإيجاد الشروط المادية "لنجاح مشروع الوطن القومي اليهودي"، ولهذا لم يُقْدم حسب قول الباحث على "إنعاش بذور الحداثة التي زرعت في التربة الفلسطينية في الفترة المتأخّرة من العهد العثماني" (وهل من المفترض أن ينعش الاستعمار المتوحّش بذور حداثة؟)، وما قام به هو نشر تحديث جزئي مرتبط بحاجاته، وحافظ على بقاء البنى التقليدية، بل وأقام نظام طوائف متخلّفاً سابقاً على النظام العثماني.
ثالثاً: سيرورة المشروع الاستعماري الصهيوني الذي أباحت له بريطانيا موارد فلسطين الطبيعية، وخاصة الأرض، وسهّلت حصوله على الامتيازات. وكان من المهم أن يُضيف الباحث تمكين بريطانيا لهذا المشروع بتدمير المجتمع الفلسطيني تدميراً وحشياً على مدى ثلاثين عاماً، فاستنزفت قواه اجتماعياً واقتصادياً وتعليمياً وسياسياً، ومهّدت الأرض لتشريده، وإقامة المستعمرة المسمّاة "إسرائيل" على أرضه.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين