مئوية لطيفة الزيات.. من أجل حرية النساء والأوطان

15 اغسطس 2023
لطيفة الزيات في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

في شهادتها عن الأديبة والمناضلة المصرية لطيفة الزيّات (1923 - 1996)، التي يُحتفل هذا العام بمئوية ميلادها، تتحدّث الكاتبة والناقدة اللبنانية يُمنى العيد (1935)، في كتابها "واحات ثقافية" (الفارابي، 2022)، عن لقائها بصاحبة "الباب المفتوح" (1960)، في مؤتمر بمدينة أغادير المغربية منتصف الثمانينيات، وتروي ما دار بينها وبين إحدى صديقاتها، حول بطلة الرواية المذكورة "ليلى"، وهُما تريَان صاحبتها تُقدّم ورقتها في ذلك المؤتمر.

"تُذكّرني ليلى بلينا فيّاض؛ بطلة رواية ليلى بعلبكي 'أنا أحيا'، التي صدرت في الفترة نفسها (1958). كلتاهما تسعيان إلى تحرُّر الأنثى من سلطة الذكورة التي تُكرِّسها تقاليد المجتمع". تستمع العيد لهذا التشبيه من صديقتها، والذي عَلِق في ذاكرتها، لتؤكِّد بدورها: "ليلى هي صنيعة لطيفة.. المرأة المناضلة التي تنطلق، في سرد روايتها، من واقع مصر الاجتماعي/ السياسي، أي من منظورٍ وطني تحرُّري. هكذا يُحيل تحرُّر ليلى، في نهاية الرواية، على انخراطها في تحرير وطنها من سلطة المستعمِر، وعلى انضمامها إلى الشابّ المُناضِل الذي تعشق".

عند كلّ حديث عن مصر وجوِّها السياسي في النصف الأوّل من القرن العشرين، لا بدّ من الإشارة إلى التيارات الفكرية التي تبنّتها القوى السياسية الناشئة حينها، وعن طبيعة النظام المَلَكية، وعن انعكاسات الواقع الاستعماري على الحياة الاجتماعية والمحلّية، وصولاً إلى نهاية المَلَكية عام 1953، ومن ثمّ استقلال البلاد. هذه وحدة تاريخية كاملة، فيها وُلِدت لطيفة الزيّات في الثامن من أغسطس/ آب، وتلقّت تعليمها الأساسي في المدارس الحكومية، قبل أن تحصل على إجازة في اللغة الإنكليزية عام 1946 من "جامعة القاهرة". شهدت هذه الفترة بواكير انخراطها في الشأن العام، متأثّرة بالأفكار اليسارية التي بدأت تحوز مكاناً لها ضمن خريطة المشهد السياسي، كما خاضت تجربتَي: الاعتقال والزواج لأوّل مرّة أيضاً.

مثّل أسلوبها الأدبي الواقعي انعكاساً ليساريتها السياسية

وبالوُصول إلى عقد الخمسينيات، وما فيه من ثورات وحركات تحرّر وطني قادت إلى تغيير شكل الحُكم في مصر ووضعيتها السياسية، فإنّ هذه الأحداث تركت تأثيراتها بالمقابل على الكثير من الكُتّاب والمثقّفين، ومن بينهم الزيّات، التي أغنت هذه النضالاتُ تجربتَها السياسية، حتى بلغت ذروتها خلال سنوات هذا العقد؛ إلّا أنّ تأثيرها على إنتاجها الأدبي لم يظهر حتى عام 1960، وذلك عندما أصدرت أولى رواياتها "الباب المفتوح".

في هذا العمل تروي قصّة ليلى، وهي ابنة عائلة من الطبقة المتوسّطة في زمن الأربعينيات والخمسينيات، حيث نشأت في مجتمع يفرض عاداته وتقاليده عليها، وتتوزّع بين أن تكون امرأة حُرَّة لديها آراؤها وأفكارها الخاصّة، وبين ما يفرضه المجتمع عليها. وفي مرحلة مُبكّرة من حياتها تكتشف أنها ما إن بلغَت حتى لم تعُد متساوية مع أخيها الذكَر، كما أنها حين خاضت تجربة الحبّ خرجت منها بخسارات فادحة. وبهذا تقف البطلة أمام الواقع الصلب، لتفكّر فيه بعقلها لا بقلبها. وتُمكن ملاحظة الرموز الواقعية في أسلوب الزيات في هذا العمل، حيث الحبّ والوطن والحياة مفاهيم كُبرى تُقدَّم دفعة واحدة، ضمن ما يُعرف بـ"الوحدة العضوية"، وإنْ جاء التعبير عنها بصورة مُباشرة.

لكنّ أعوام الستينيات، لم تكن مُنتعشة -كحال العقد السابق- بالآمال أو الانتصارات الوطنية، حيث وضعت نكسة 1967، حدّاً لكلِّ الطموحات التي كان يتغنّى بها المثقّفون، على تنوّع اتجاهاتهم، وكشفت عن أزمة فادحة يعيشها النظام العربي برمّته حينها، وفي المقام الأوّل منه مصر. مع ذلك، حافظت الزيّات، طيلة تلك السنوات، على موقفها التحرُّري، فمن جهة واصلت أعمالها الصحافية والنقدية، والتي قدّمت فيها قراءاتٍ جمعت بين الخلفية الأدبية والأكاديمية (بحُكم أنها نالت دكتوراه في الآداب)، والهمِّ النسوي، مُعتبرة قضية المرأة وحرّيتها، مسألة ذات أولوية لتحرُّر المجتمع بأسره، ومن جهة أُخرى، ظلّت على إيمانها بضرورة تعميق التحرّر الوطني.

عارضت اتفاقية كامب ديفيد فقابلها النظام بالاعتقال

إلّا أن بوادر تغيُّر العالمَ الثوري، سياسياً، بدأت تلوح في الأُفق، مطلعَ السبعينيات، ومعها راح مُعجم المفردات التحرّرية، والذي سحبَه الكتّاب اليساريون إلى الأدب، يُصبحُ أقلّ بريقاً. وعلى المستوى المصري تكامَل هذا الأفول، بانهيار الحُلم الناصري، على وَقْع الساداتية المُطبِّعة والمُعترِفة بالكيان الصهيوني، في كامب ديفيد عام 1978. الاتفاقية التي عارضتها صاحبة "بيع وشراء"، الأمر الذي قادها، وهي ابنة ثمانية وخمسين عاماً، إلى السجن، حيث قضت فيه أشهراً عدة. 

في كتابها "أوراق شخصية" (1992)، تستذكر تلك الفترة من حياتها، فتكتب: "أنا في الثامنة والخمسين، وأنا في طريقي إلى السجن: ألمحُ حرّيتي مُكتملة في آخر الطريق، وتصالحي مع الذات بعد مشوار طويل، ولم تكن هذه الحرّية بالحرّية المبذولة ولا بالحرّية النهائية. يتأتّى عليّ الآن وقد طعنت في السنّ، أن أعاود بالفعل الحرّ والهادف توكيد حرّيتي المرّة بعد المرّة". وكعادة كُتب المذكّرات، يمزج هذا العمل، بين السيرة الذاتية والملامح الروائية، حيث تعود الكاتبة إلى بيتها القديم في دمياط، وإلى تنقّلاتها بين مُدنٍ ومناطق مصرية مختلفة، إثر الملاحقات الأمنية التي كانت تتعرّض لها، سواء في أواخر العهد الملكي، في نهايات الأربعينيات، أو بعد ذلك بثلاثين عاماً في الحقبة الساداتية. إلى جانب ما سبق، تناولت في كتابها هذا، أحداثاً عائلية مُختلفة تُبرز ما مرّت به على المستوى الشخصي. 

في العقدَين الأخيرَين من حياتها، انشغلت الناقدة والكاتبة المصرية بالإنتاج، وأخذت تُعطي الكتابة الأدبية مساحة أكبر. وإن كان في هذا دوافع شخصية عديدة، إلّا أنه لا يُمكن أن نغفل عن الأسباب العامّة وراء هذا الخيار، حيث كانت السلطة قد أغلقت المجال العام، وعطّلتِ الحياة السياسية خلال عقدَي الثمانينيات والتسعينيات، وهنا انكفأ الكثير من المنخرطين والفاعلين السياسيّين، صوب دوائر أضيق. ومن الكُتب التي أنجزتها في هذه الفترة: "من صُور المرأة في الروايات والقصص العربية" (1989)، وربّما هو الكتاب الأبرز من بين مؤلّفاتها، الذي يجمع رؤيتها الكلّية كناقدة أدبية، و"صاحب البيت" (1994)، وفيه تعود إلى نموذج البطولة النسوية، من خلال شخصية "سامية"، وأجواء الاعتقال السياسي، بعد ثلاثة عقود على إنجازها البطولة الأُولى مع "ليلى".

المساهمون