مؤتمر معجم الدوحة: سؤال المنهج ونقده

11 مايو 2022
من أعمال ثاني جلسات المؤتمر في يومه الأوّل (معجم الدوحة)
+ الخط -

تتوالى أعمال المؤتمر الثالث لـ"معجم الدوحة التاريخي للغة العربية"، مستعرضةً أهمّ الإشكاليات التي واجهت أوسع عملية تحقيب لظهور دلالات الألفاظ العربية وتوثيقها بما صحّ من النصوص والمدوّنات، في لقاء تقييم ونقد، جرت أعماله النظريّة والتطبيقيّة، بهدف التعمّق في قضايا التأريخ لآلاف الدّوال والمدلولات وتحوّلاتها عبر أطوار التاريخ الثقافي ومقامات التعبير وسياقات الاستعمال.

ولعلّ القضية الرّئيسة التي تستأثر باهتمام الباحثين هي منهجيّة استنطاق هذه المدوّنات واستخراج ألفاظ الحضارة والمعيش اليومي بغرض الوقوف على ما أنتجته العرب، طيلة تاريخهم الطويل، من أسماء لتعيين الأشياء المادّية التي تملأ مُحيطهم الملموس وتتّصل بالمآكل والملابس والمباني والسلاح والأثاث والزينة وغيرها، في ردّ ناعم على مُصادرة ما تزال شائعة في خطابات إيديولوجية فاعلة اليوم بعد أن رسّخها الاستشراق، ومفادها أن الضاد لغة شعريّة وثيقة الصلة بأجواء القداسة والأسطورة، ولا تقْدر على مغادرتها وما عبّرت البتة عن شواغل الحياة المألوفة. ثم تُبنى على هذه المصادرة ضرورة التخلّي عن الفصحى لافتقارها إلى كلمات الحضارة. والواقع أنّ مُدن الإسلام، من المحيط للخليج، كانت عامرة بآلاف الأشياء وأسمائها، تدلّ على كلّ وجه من وجوهها، في تنوّع ودقّة، تولّدت عنها فويريقات جمّة، بين الأشياء والأسماء.

الانتقال بالدرس المعجمي من الذاتية نحو أنضج النظريات

وأمّا ثاني المحاور فيتّصل بالمقارنة المعجماتيّة بين "معجم الدّوحة التاريخيّ" و"معجم الشارقة" وكذلك المعاجم التاريخيّة: الفرنسية والإنكليزية والإيطالية... في مسعى إلى فحص أوجه الائتلاف والاختلاف بينها جميعاً، على مستوى إجراءات التحرير ومضامين التعريف والتحقيب، والإفادة من التجارب السابقة، مع أنها مطبّقة على لغات أجنبية، وذلك بغرض بناء هويّة عِلميّة وخصوصية منهجيّة يتميّز بها هذا المعجم عن غيره من التجارب. والمقارنة، أنّى كان مجالها، عملٌ عِلميّ شجاع يضع الذات أمام الآخر ليقيس ما حقّقته على ضوء مثال مُباين، ممّا يفضي بعد ذلك إمّا إلى ترسيخ المنهج المُعتمد وإمّا إلى تحويره وإنضاجه بتلافي المآخذ والمنزلقات، وكلّ معجم مرآةٌ لذاته ولسواه.

كما تشغل قضية الزّمر الساميّة والصلات المنعقدة بين المواد العربيّة ومقابلاتها ونظائرها الساميّة حيّزاً مهمّاً من التحليلات حيث اجتهد الباحثون، ولا سيّما الأستاذ رمزي منير البعلبكي، في تثمين هذه الروابط من حيث مساعدتها على كشف ما استغلق من الدلالات والوقوف على مراحل خفيّة في نشأة المفردات العربيّة وتناسلها ضمن العائلة الساميّة الواحدة وجذورها المشتركة والمتماسّة.

وقد يفيد هذا المحور في تنسيب نظريّات بعض المستعربين، مثل لارشي وبوهاس وخصوصاً مؤرّخي القرآن الذين يشتغلون على النص الديني وعهود تدوينه، وهم يسارعون، في سطحيّة متهومة، إلى اعتبار الضاد مقترضة لما سَبقها من اللغات الساميّة، لا متفاعلةً معها وفاعلةً فيها، فضلاً عن كون هذه النظريّات مجرّد تخمينات، لا تشهد لها أدلة التاريخ ولا تؤيدها الشواهد المنقوشة. ولا نعلم سبباً لهذا التصميم المَرضي على سلب الضادّ والقرآن من ضمنه، كلّ خصوصيّة عربيّة وعدم وصلهما بالبيئة الحجازيّة الأصيلة وكذلك بالمحيط المتوسّطي.

كما اهتمّ المتدخلون أيضاً بتحليل نماذج مصطلحيّة من خلال دراسة تخصصات دقيقة كالقانون الجنائي وعلم العروض والتكنولوجيا والتراث الفقهي وغيرها من الحقول، وذلك من أجل الوقوف على الكيفيّة التي رصد بها معجم الدوحة نشأة تلك المصطلحات وتابع تحوّلَها من عموم النص الى تخصيص الاصطلاح وتضييقه المفاهيمي.

ويشكل هذا المحور، هو الآخر، ردّاً لطيفاً على فكرة عَجز الضاد عن احتواء ما يطرأ في ساحة العلوم من التغييرات وما يظهر طيّها من الاكتشافات الراهنة، وكلها تؤدّيه في جلاء ودقة، شأن أيّة لغة عالميّة تواكب عصرها وتعقلن السكنى فيه، بشكل صائب غالباً، وبشيء من التجوز وحتى الخطأ أحياناً. 

نقض لمقولة أن الضاد لغة شعر وقداسة وأسطورة فحسب

هذا، والجامع بين كلّ هذه المحاضرات هو التركيز على البعد المنهجي في رصد الظواهر الدلاليّة وتعقبها حيث ساءلت كلّ مشاركة المنطلقات النظريّة التي بُنيت عليها التعريفات، وآليات تحليلها وتفكيك مبادئها التي اعتمدها معجم الدوحة التاريخي، وقوفاً في موقف التمحيص للعَمل المنجز على كل مادة من مواده العديدة، مع هاجس واحد هو الانتقال بالدرس المعجمي من الذاتية والاعتباطية والتمجيد نحو الفحص المتسلح بأنضج النظريات في حقل صناعة المعاجم وتدوينها وترتيبها. 

ولعل ما يحسن التعمق فيه، ضمن الأعمال اللاحقة وهي واعدة، هو استعادة نظريّات المستعربين، في الغرب ولاسيما في فرنسا، التي ضربت مقولة الجذر الثلاثي، وبيان تهافتها أو دعمها، ولكن بنفس الأسلحة العلميّة التي توسّلت بها هذه الأبحاث دون تجهيل ولا قذف.

وقد أبانت هذه الأعمال أن الكفاءات العربية ليست أعجز من غيرها على استنطاق التراث وتحليل أبنيته ونظامه الفكري حيث يقوم هذا المركز بمختلف فروعه المعرفيّة ومكتباته ومختبراته البحثيّة في مجال العلوم الإنسانية بأسرها بأعمال جادة، قادرة على أن تنافس أكثر الأبحاث عمقاً وأصالة وإلماماً، على أن يقع الترويج لها في الخطاب الاجتماعيّ والسياسيّ وإيصال مخرجاتها إلى الإنسان العربي، بخلق محاور اهتمام لدى مجتمعاتنا، بحيث لا تبقى هذه الأعمال الجامعية مفصولةً عن النسيج الاجتماعيّ، بل توفّر للناس أدوات للنقاش والقراءة وتحليل الأحداث من أجل فهم الواقع السياسي المحيط وفكّ شفراته، وهذا هو التحدّي الأول الذي على المشاريع الثقافيّة النهوض به. 

وأما التحدي الثاني فهو مزيد التعريف بهذه النتائج التي تُوصّل إليها في هذا المؤتمر ضمن الفضاء المعرفي الغربي حيث تحصل المكافحة الفعلية العميقة بين ما يصلون إليه من نظريات، وما ينتجونه من مفاهيم إجرائية بالاشتغال على مدوناتهم الغربية أو على المدوّنات العربية، حتى يخفّ التناكر الحاصل بينهم وبيننا، ينسبوننا إلى التمجيد والاعتداد بما قاله الأقدمون، ونرميهم بالتعالي والجهل، ولا ينعقد بيننا من الحوارات ما يردم هذه الهوة المعرفيّة، يمضي كلّ في دراساته وهفواته. ووسيلته ذلك الترجمة والنقل من الضاد إلى غيرها والعكس بالعكس. وهكذا، نخرج جميعاً من منطقة التعادي والتناكر نحو الحوار المميز.

ولا بدّ لي من الإشارة إلى كريم الحفاوة التي أبداها المنظمون تقديراً لمجهودات المعجميين العرب، الذين قضوا سنوات أعمارهم بين رفوف المكتبات وصفحات المعاجم القديمة والحديثة، يتابعون سيرورة الكلمات وتموّجات معانيها؛ إكرامٌ وتقديرٌ يبعثان الأمل في نفوس المتخصصين في العلوم الإنسانيّة ويشجعانهم على مزيد العمل في حقولهم. والحفاوة التي تلقوها لا تقل عما يحظى به الفنانون والرياضيون. 

 

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون