"مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة": عن قابليّة نقل المفهوم الفلسفي

30 يناير 2023
ألدو نيكوسيا (من الندوة)
+ الخط -

الإشكالية المعرفية التي تتعلّق بقابليّة المفهوم الفلسفي للترجمة، في سياق جملة فرضيات وتصوّرات طُرحت تاريخياً، ومقاربة مجموعة تطبيقات لترجمة نصوص فلسفية لفَهْم التفاعُل والتواصل بين الثقافات؛ مثّلت المحور الأساسي في خامس جلسات "مؤتمر الترجمة وإشكالات المثاقفة" الذي نظَّمه "منتدى العلاقات العربية والدولية" في الدوحة، واختتمت نسخته التاسعة مساء أمس الأحد.

الجلسة التي ترأستها فاطمة برجكاني؛ أستاذة اللغة العربية وآدابها في "جامعة الخوارزمي" بطهران، عُقدت عند التاسعة صباحاً بمشاركة أستاذ اللغة العربية وآدابها شكري السعدي، وأستاذ الفلسفة الحديثة وتاريخ العلوم يوسف بن عثمان، وأستاذ اللغة العربية والمترجم ألدو نيكوسيا، وأستاذ الفلسفة والكاتب عمر التاور، وأستاذ فلسفة اللغة العربية محمد بن منصور.

هل للمفاهيم الفلسفية خصوصية؟ التساؤل الذي انطلق منه السعدي في ورقته "إشكالات ترجمة مفاهيم فلسفة اللغة" للردّ نظرياً على الرأي القائل بعدم قابلية المفاهيم الفلسفية للترجمة من لغة إلى أُخرى، عبر نفي القول بخصوصيتها إلّا بالخصوصية التي تميِّز كلّ فنّ أو صناعة عِلمية عن غيرها من الفنون والصناعات، التي يستقّل كلّ منها بموضوع أو منهج لا يشاركه فيه غيره.

تشكّل الحَرْفية والتقابلية معضلات ترجمية أساسية

ويرى أنّ مقولته لا تطعن في عمق المفاهيم والتصوّرات الفلسفية، ولا يُنكر دورها الريادي وأثرها في تشكيل الفكر العِلمي وإحداث الثورات المعرفية، لكنّه لا يقرّ لها بعُمق يُجاوز عمق العلوم الدقيقة، ولا يجيز لها أن تتعدّى الدرجة الدنيا من الوضوح التي تبقي الخطاب الفلسفي في دائرة المقروئية والمفهومية وتحول دون تدحرجه إلى دائرة التعمية والإلغاز.

ومن خلال تجربة شخصية في ترجمة جملة من النصوص الفلسفية اللغوية، يصل السعدي إلى أنّ كثيراً من المفاهيم والتصوّرات الفلسفية المعاصرة والحديثة تمكن ترجمتها بكلّ يُسر، وإيجاد المصطلحات اللائقة لها والمطابقة لها في فلسفة اللغة العربية التي تستند إلى تقاليد لغوية عريقة، وتراث راسخ قوامه تقليدٌ نحوي من أقدم التقاليد النحوية التي عرفتها البشرية، فضلاً عن المصّنفات الدائرة في فقه اللغة وترجمات الفلسفة والمنطق اليونانيين.

يوسف بن عثمان - القسم الثقافي
يوسف بن عثمان

وفي ورقته "استحالة الترجمة وصراع البراديغمات: مفهوم الحركة الأرسطية عند ديكارت" يشير يوسف بن عثمان إلى القول بإمكان الترجمة حواراً وتلقياً وتواصلاً بين الثقافات، وإن بعض وجوه القول باستحالة رفضها للتلقّي والتواصل، وإفرازاً بعدم تقايس براديغمَين علميَّين أو ثقافتين متباينتين كلياً، وبضرورة قطع إحداهما مع الأُخرى، فإذا كانت الترجمة استضافة لفكر جديد، فقد يكون رفض الترجمة سبيلاً للثورة والتجديد أيضاً.

قد تكون استحالة الترجمة سبيلاً للثورة والتجديد 

ويبيّن أنّ ديكارت عمِد إلى عدم ترجمة التعريف الذي وضعه أرسطو لمفهوم الحركة إلى الفرنسية، وتركه - عند تناوله بالدرس والنقد - في لغته اللاتينية (اللغة التي تلقّى بها الغرب الفكر اليوناني عن طريق الترجمات العربية)، واعتبره غير واضح كفاية ليُترجم، إذ إنّه نقل إلى اللاتينية عن الفلاسفة العرب الذين أخذوه بدورهم عن أرسطو، وصاغوه على النحو التالي: "الحركة هي فعل ما هو بالقوة من حيث ما هو بالقوة".

"الغربة وآفاقها في الترجمة" عنوان ورقة نيكوسيا، والتي اعتمد فيها على تجربته في الترجمة الشفوية لمهاجرين أو مغتربين، حيث وجد صعوبة ترجمته من العربية إلى لغات أخرى، كما أن القواميس الأوروبية/ العربية تترجمه بمعاني "الغياب عن الوطن، والانفصال عنه، والنفي، والمنفى، بما يدلّ على تجربة وجودية من العزلة النفسية في مجاله الدلالي العام.

ويعود إلى مصادر فلسفية قديمة، يمكن أن توفّر إضافات جديدة لتحديد المصطلح، قد تتناقض مع المعاني المشتركة المفهومة في هذا العصر، حيث يرفض ابن عربي في "الفتوحات المكية" الآثار السلبية للغربة الجغرافية لأنها في الحقيقة ناتجة عن انكسار الوحدة والانسجام بين الإنسان والإلهي، ويشتقّ المصطلح من الجذر "غرب" فيرتبط منطقياً وفلسفياً بنقيضه "شرق" في قصص الغرباء الغريبة للسهروردي إذ يتمّ تصوير الغرب كعالم المادة والظلام.

قدّم الفلاسفة المسلمون ترجمة خلّاقة للفكر الإغريقي

ويوضّح نيكوسيا بأنه من المفيد تحليل الغربة من منطلق علم الدلالات الصوتية، فيلاحظ  أن معظم المفردات التي تبدأ بحرف الغين تجمل معاني الظلام ونقص الوضوح، ويتكشّف هنا صعوبة نقل الدلالات التي تشحنها بعض الحروف من دون سواها.
أما التاور فيقف في ورقته "معضلات ترجمة بعض المفاهيم الفلسفية الغربية المعاصرة إلى اللغة العربية"، عند ثلاث معضلات قديمة أولها الترجمة الحرفية لبعض المفاهيم التي زاغت عن دلالاتها في سياقاتها الفلسفية، ومنها ترجمة مفهوم (Pro-jet) لجان بول سارتر التي قصرت عن نقل مفهوم نحته الفيلسوف الفرنسي للحديث عن أن الوجود سابق لماهية الإنسان.

ويشير إلى "التقابلية" التي تشكّل المعضلة الثانية التي يمكن التدليل عليها في ترجمة عبد الرحمن بدوي لمفهوم (Da-sein) لدى مارتن هيدغر باستعادة مصطلح "الإنية" في التراث العربي، وهو نقل زاغ غن المقصود "الكائن المهموم بهمّ وجوده"، بينما تأتي "البلاغية" بوصفها معضلة ثالثة كما حدث في ترجمة سالم يفوت لمفهوم (Archéologie) عند ميشيل فوكو، بكونه "حفريات" بينما كان يُقصد معنى مجازياً لا يتعلق بالحفر والتنقيب، وإنما بالكشف عن المشترك بين معارف البيولوجيا واللغة والاقتصاد التي أدت إلى ظهور العلوم الإنسانية، وتسعى أيضاً الأركيولوجيا إلى الكشف عن تحولات الخطاب.

محمد بن عمر - القسم الثقافي
محمد بن منصور

وختم بن منصور الجلسة بورقة حملت عنوان "الترجمة الخلّاقة: تجليات الهوية العربية في الفلسفة الإغريقية" ناقش خلالها الأسباب التي جعلت الفلسفة العربية تتبّع مساراً فريداً ومتفرّداً يرنو إلى التشبّع بالإرث الإغريقي لتبيان أصدائه في الحضارة العربية، فهي لا تعتبر أرسطو أو أفلاطون فيلسوفَين إغريقيَّين فحسب، بل أيضاً فيلسوفين كونيين يمكن لكلّ أمة ولكلّ حضارة أن تستمدّ من مؤلّفاتهما أطروحات ونظريات تتناغم مع ثقافاتها وطبيعتها.

ويشير إلى أن البحث عن التماهي والتماثل مع المخزون الفكري الإغريقي لا يؤدّي بالضرورة إلى فرضه على الواقع العربي والهوس باستنساخه استنساخاً كلّياً في الشروح والملخّصات، وكان المفكّرون والفلاسفة المسلمون واعين للتباين بين الأفقين العربي والإغريقي، وبضرورة الأخذ بعين الاعتبار للفوارق الزمانية والمكانية والحضارية في تقديم النصوص القديمة وتفسيرها.

ويخلُص بن منصور إلى أنّ هذه الترجمة الخلّاقة ظلّت رهينة المقارنات المتسرّعة والثانوية بين الفلسفتين (الإغريقية والعربية)، بحثاً عن مظاهر الوفاء والقرب والخيانة والبعد والانحراف والانزياح عن الأصل الإغريقي، من دون التركيز على مظاهر إعادة الصياغة والتكييف وإلقاء الضوء على خصوصية المشروع الترجمي العربي وأبعاده الحضارية والأدبية.

دلالات
المساهمون