لماذا اسمها فاطمة؟

27 يونيو 2023
باية محي الدين/ الجزائر
+ الخط -

كان وقعُ اسمها على مسامعي مُلفِتاً: فاطمة. سَألتْها المرأة التي كانت ترافقها:

."?Fatima, que veux-tu boire" (فاطمة، ماذا تودّين أن تشربي؟).

كنتُ أجلس إلى طاولة قريبة من الطاولة التي جلست إليها فاطمة. أمّا رفيقتها فقد كانت تقف عند البار الذي توجّهتْ إليه فور دخولهما إلى البيسترو. أخذتُ أتأمّل فاطمة محاولاً أن أفعل ذلك بطريقة غير مكشوفة. كانت عيناها سوداوان وكبيرتان تحيطُهما أشفار سوداء كثيفة ويُزيّنهما خطّان من الكُحل. شعرها الأسود انسدل على كتفيها بفوضوية جميلة. لاحظتُ أنّ وجهَها مربّع الشكل، وأنفها ذو أرنبة مترفّعة وبشرتها بيضاء ناصعة. كانت طويلة القامة وأنيقة المظهر. "تبدو وكأنها ذات أصول أوروبية"، هذا ما قلُته لنفسي، وأنا حائر كيف يكون اسمُها فاطمة. حين تكلّمتْ بالفرنسية بلكنتها الغريبة، لمع في ذهني احتمالان اثنان: هي إمّا ألمانية وإمّا هولندية. 

."Un café, s’il te plait et sans sucre" (قهوة من فضلك، بلا سكّر).

كانت رفيقتها تتحدّث وتضحك مع صاحب المقهى الصغير. بدتْ أنّها تعرفُه. سألتُ نفسي والفضول يُحاصرني ويُشعِل نيرانه داخلي، وقد كنتُ أشرب قهوتي، وأقرأ الأخبار الرياضية على شاشة هاتفي، تُرى هل يكون أحدُ والديها عربياً، وهو من سمّاها فاطمة؟ الزواج المُختلط شائع في أوروبا. ثم سألتُ نفسي من جديد: "ماذا تفعل في باريس؟ هل هي سائحة أم طالبة جاءت للدراسة في الجامعة؟" لاحظتُ وجود حقيبة سفر متوسّطة الحجم إلى جانبها. كانت تنظرُ إلى شاشة هاتفها الذَّكي، ومن حين إلى آخر تنقر الشاشة أو تمرّر سبّابتها عليها.

وجاءت بسرعة رفيقتها وسمعتُها تقول لها بفرنسية باريسية: "عزيزتي، ستأتي القهوة الساخنة في غضون لحظات. جان من أفضل أصدقائي، وقهوتُه رائعة، أمّا أطباقُه الخفيفة فهي من ألذّ ما يمكن أن تأكلي في باريس". ابتسمتْ فاطمة وأحضر لهما جان، صاحب البيسترو، قهوتيهما بابتسامة عريضة على مُحيَّاه.

لا بدّ أنّ لها أصلين: أحدهما عربي والآخر ألماني 

ثم ران الصمت بينهما للحظاتٍ وهُما ترتشفان قهوتيهما، وحين تكلّمتا كان صوتُهما خفيضاً. كانت رفيقة فاطمة فتاة في الثلاثين تقريباً. بدَتْ أنها تكبرها بسنوات قليلة. كانت شقراء وعيناها تميلان إلى رمادية السماء في يوم غائم. إنها فرنسية. أسررْتُ لنفسي. وانشغلتُ بقراءة رسائل الواتساب التي وصلت إلي على هاتفي الذكيّ والردّ عليها.

رفعتْ فاطمة عينيها، ورمقتِ الشابّ الذي يجلس قريباً من طاولتها. كانت ملامحه أوروبية. عيناه زرقاوان وبشرتُه بيضاء. كان شَعره الكستنائي مُسرَّحاً على طريقة تسريحة شَعر الممثّل الكندي الشهير كيانو ريفز، بخصلات طويلة بعض الشيء وناعمة. كان جذّاباً بلباسه الرياضي. قالت فاطمة لنفسها وهي ترتشف قهوتها: "يا لهُ من شابّ فرنسي وسيمǃ". 

- "متى يأتي هانز؟"، سألتْ رفيقة فاطمة. 

سمع الشاب "ذو تسريحة كيانو ريفز" ذلك الاسم فأشرقت عيناه. وظنَّ أنه حصل على معلومة تجعله يُسقط أحد الاحتمالين السابقين. هي ألمانيةٌ إذاً، أو هو أحد أصولها. ثم تملّكتْه نزعةٌ شديدة ليعرف مَن يكون هانز، وما علاقته بفاطمة؟ هل هو صديقُها؟ حبيبُها؟ زوجُها؟

- "سيصل بعد خمس دقائق. لا يُريدني أن أُقيم بفندق، تعرفين كيف هو هانز. رغم أنّني لن أبقى سوى يومَين من أجل المُلتقى وأعود إلى ألمانيا". 

- "وددتُ لو تُقيمين عندي فاطمة".

- "أشكرُك سيلين، ولكنّ هانز وجوناس الصغير اشتاقا إليّ. صوفيا أيضاً ألحّت عليّ بأن أمكث معهم بشقّتهم. لا يُمكنني الهرب". أضافت مازحة وضحكتْ ضحكةً صغيرة.

لم يتمكّن الشابّ من تحديد مَن يكون هانز، رغم كلّ تلك المُعطيات الجديرة بالاهتمام التي سمعها رغماً عنه. هل هانز صديقها؟

رفعت فاطمة عينيها فجأةً في اتجاه الشابّ الوسيم، ففاجأته وهو ينظر إليها نظرةً مُمْعِنة، حينها ابتسم بارتباك. فابتسمتْ وحوّلتْ نظرها عنه بسُرعة. "تُرى هل ينتظر حبيبته؟".

ودخل إلى المقهى رجلٌ طويلُ القامة في الثلاثين من العمر. كان أبيض البشرة وذا شعر أسود. لاحظَ الشابُّ الذي يرتشف قهوته اللحيةَ السوداءَ التي تغطّي ذقن الرجُل الذي وصل للتوّ. لحيةٌ على "الموضة الأوروبية". كانت ملامحه تُشبه ملامح فاطمة التي قفزت تقريباً من كرسيِّها وارتمَت في أحضانه، وهي تصيح بحنان: "هانزǃ". قبّلها هانز على خدَّيها وهو يحتضنها: "كيف حالُ أختي الصغيرة؟"، سألها بألمانية فصيحة. كان الشاب الأشقر يُتقن الألمانية بشكلٍ كافٍ، لذا فهِم كلام هانز.

هكذا أيقن الشابّ، "ذو تسريحة شعر كيانو"، أنّ هانز ألمانيّ، وأنّ فاطمة أخته. لكنْ لماذا اسمُها فاطمة؟ هل هُما أخوان غير شقيقين؟ هل لكلّ منهما والدته فتكون والدتُه ألمانية، ووالدتها عربيّة، ولهُما والدٌ مشتركٌ، ألمانيُّ الأصل؟ أم أنّ العكس هو الصحيح، والدُه ألماني ووالدُها عربيّ، ولهما الوالدة نفسها وهي من أصل ألمانيّ؟ كان رأسه يغلي باحتمالات عديدة. استغرب كيف يُمكن لفتاةٍ، أخوها اسمُه هانز، أن تحمل اسم فاطمة. هو ألمانيّ فأكيد هي كذلكǃ كيف يُفسَّر أمرُ اسمها العربي؟ هل هناك تفسيرات أُخرى؟ أكيد تُوجد تفسيرات أُخرى محتمَلة أخذت تتوالد في رأسه.

وبينما كان جيرانُه الثلاثة يتبادلون الحديث، رنَّ هاتف الشاب. كان ذلك صديقه الذي ينتظر قدومه. فأخبره أنّه داخل المقهى. فُتِح الباب بحركة استعراضية، ودخل شابٌّ آخر يضع هاتفاً بالقرب من أُذُنه، وصاح فَرِحَاً بصديقه الجالس وهو يبتسم: "محمد، !ça fait un bail (لم أركَ منذ فترة طويلة). وسلّم الصديقان على بعضهما البعض بحرارة وجلسا إلى الطاولة.

"اسمه محمد. هذا الشابُّ ذو الملامح الأوروبية عربيّ؟ يا لغرابة الأمرǃ لقد انخدعتُ بمظهره". قالت فاطمة في سريرتها. ثم خرجَتْ هي وهانز وصديقتها من المقهى، وكان محّمد يتبع بنظراته الفتاة التي حيَّرته، وقد شعر بشيء ما يشدُّه نحوها. وتمنّى وقد أُغلق باب المقهى الصغير خلف الثلاثة الذين خرجوا للتوّ: هانز وفاطمة وصديقتها، أن يلتقي مُجدّداً بتلك الفتاة الألمانية ذات الاسم العربي، كي يطلُبَ منها أن تشرح له لماذا اسمُها فاطمة؟   


* شاعرة ومترجمة من الجزائر

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون