استمع إلى الملخص
- لتحسين الترجمة الآلية، يجب بناء ذاكرة رقمية عربية تشمل العبارات الثقافية والدينية، وربط المصطلحات بسياقاتها لتعزيز الدقة وتقليل الأخطاء.
- رغم المخاوف الاقتصادية من تقليل فرص العمل، يجب تحسين أداء الترجمة الآلية مع الحفاظ على دور المترجم البشري ومحاربة الانحياز الرقمي لضمان نصوص عادلة.
ظهرت الترجمة الآلية منذ تسعينيات القرن الماضي، ولم تزل تتطوّر وتُشحذ أدواتها وتُدقّق وظائفها وبرمجياتها حتى وصلت اليوم، مع الذكاء الاصطناعي و"تشات جي بي تي"، إلى مراحل متقدّمة لا يمكن لأحد إنكارها. ومن الطبيعي أن يشهد هذا المسار تعثّرات وأخطاء هي غالباً ما تكون محور النقد المثالي الرافض لأمرٍ واقعٍ مهيمن.
تُركّز هذه الانتقادات على أخطاء الترجمة وسوء الفهم والتكرار، فضلاً عن ركاكة التراكيب وطمس الصور المجازية أو نقلها حرفياً، إلى جانب الجهل بالمفردات ذات الحمولة الاجتماعية والثقافية البارزة. وغالباً ما تنتهي هذه الانتقادات إلى الدعوة لعدم اللجوء إلى الآليات المساعدة في الترجمة - هكذا في مثالية جوفاء - ووصمها بالفساد والتهافت. وقد يتحوّل هذا النقد إلى تمجيد إمكانات المُترجم البشري وكفاءاته التي يُقال إنّها لا تُضاهى ولا يمكن لأيّ آلة تعويضها أو الحلول محلّها، وذلك في إغفالٍ تامٍ لتاريخٍ طويلٍ من أخطاء الترجمة البشرية في مختلف القطاعات، والتي كان بعضها كارثياً.
يذكر الجميع قرار مجلس الأمن رقم 242 (22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967)، بعد حرب الأيام الستة بين "إسرائيل" والدول العربية، والذي يدور حول احتلال الأراضي الفلسطينية، وقد أدّى غياب التعريف أو التنكير فيه إلى اختلاف كبير في المعنى. ولا يزال هذا الخطأ يُستخدم في النقاشات حول وضع الأراضي التي احتلّتها "إسرائيل" خلال الحرب وحول تبعات صياغته باللغة الإنكليزية التي تطلب "انسحاب القوّات المسلحة الإسرائيلية من أراضٍ احتُلَّت في النزاع الأخير"، دون استخدام أداة تعريف، في حين توحي الترجمة الفرنسية بالتعريف بطلب الانسحاب من جميع الأراضي المحتلّة.
من المُلحّ العمل على بناء ذاكرة رقمية عربية للترجمة
وعادةً ما يتحوّل هذا النقد إلى مجرّد تعداد لا ينتهي للأمثلة المستمدَّة من سياقات مختلفة لبيان أوجه القصور ومدى الخطأ في ترجمة المفاهيم العربية، وخاصّةً في النصوص القانونية والدبلوماسية والإدارية، فضلاً عن السجل الأدبي والديني الذي يُقال إنّه لا يمكن ترجمته. وهكذا، تذكر الأمثلة بلا حصر أو نهاية، والغرض منها التشنيع على الآلة وتمجيد العقل البشري الطبيعي، مع الدعوة إلى اعتماده كوسيلة وحيدة للنهوض بهذا العمل.
حيال هذه المواقف المعيارية، لا بدّ من اقتراح مقاربة جديدة تتمثّل في تحديد سبل تقوية الترجمة الآلية وتزويدها بالموارد الرقمية التي تساعد في الحدّ من الأخطاء وتقديم أفضل الخدمات. وتكمن الخطوة الأولى في بناء ذاكرة عربية للترجمة تشمل العبارات والتراكيب والصور في مجالات الاختصاص، بحيث يوضع ما صحّ من الترجمة وقُبِل لدى الخبراء في هذه الذاكرة، ليكون متاحاً للآلة مباشرةً من دون الاعتماد على الإمكانات العامّة الأُخرى التي تُعيق النقل الدقيق للخطاب.
أمّا الخطوة الثانية، فتكمن في التركيز على المفردات المشحونة تاريخياً، والمفاهيم التي قد تكون غير قابلة للنقل أو الترجمة لارتباطها الوثيق بالسياق المحلّي للثقافة العربية الإسلامية، مثل مفاهيم "الشريعة"، و"الحُرمة"، و"الخلوة"، و"المَحرَم" وغيرها الكثير. ومن المفيد هنا تحميل الشحَن الثقافية- الدينية التي علِقَت بهذه المصطلحات حتى تظهر في مسار الترجمة ويُشدّد عليها، عملاً بنظرية "الآثار" التي تعود أصولها إلى أعمال جاك دريدا.
للترجمة البشرية هي الأُخرى تاريخٌ حافل بالأخطاء
وتحتلّ الاستعارات والمجازات حيّزاً كبيراً في هوامش أخطاء الترجمة الآلية وتُعتبر من أكثر الموضوعات صعوبةً في النقل بسبب استنادها إلى المعاني الثانوية التي لا تظهر في الألفاظ وتتطلّب تأويلاً دقيقاً للإيحاء أو الدلالة الكِنائية التي يُراد تبليغها. ولعلّ التركيز على هذا المجال الواسع، رغم صعوباته وعدم نهايته إذ لا حدَّ للمخيال في إنتاج المجازات، هو ما يساعد في القضاء على مصدر مهمّ من الخطأ. وهنا لا بدّ من تخزين ذاكرات الكلمات الدلالية وما يكتنفها من المعاني والصور وما ارتبط بها من قصص وآثار؛ فكلّ مفردة في معجم "لسان العرب" مثلاً رواية مصغّرة تحكي أصل المعنى وتطوّراته وتفرّعاته البيانية والاصطلاحية، وهو ما لا بدّ أن يظهر في الترجمة، ولا سيما أثناء نقل الكلمات التي تتقاطع ذاكراتها المجازية في لغتيْن أو أكثر، وليست بالنادرة.
كما ينبغي ربط المصطلحات بمجالاتها وأجناس القول وسجلّاتها، حيث إنّ المفردة الواحدة قد يتغيّر معناها بحسب الحقل الدلالي والمفهوم الذي تُستخدم فيه؛ فتحديد نوع الخطاب يساعد على إزالة الالتباس ويعزّز النقل السليم.
ومن الجدير بالذكر أنّ العمل الذي تنجزه الآلة يظلّ بطبيعته أوّلياً أو تمهيدياً، ليأتي دور المترجم البشري في مراحل لاحقة للتحقّق والتثبت والتنقيح والمراجعة والتحسين. ولهذا، ينبغي التركيز على المهارات التي يجب على المترجم اكتسابها ليكون تدخّله في هذه المرحلة مبنيّاً على قواعد واضحة تضبط هذا الدور وتحدّده، ممّا يعني أنّ البعد الإنساني لن يغيب في ظلّ التطوّر الآلي، بل سيأخذ طابعاً مختلفاً.
ومع ذلك، ركّزت هذه الانتقادات على البعد الاقتصادي في تخفيض كلفة الترجمة الآلية، والتي يُقال إنّها تُسهم في تدمير العديد من فرص العمل التي كانت محفوظة للمترجمين، خاصّةً أنّ كثيراً من هؤلاء لا ينالون إلّا أجوراً زهيدة في مهنٍ لا تُعترف فيها بجهودهم، وأنذرت أنّ هذه الترجمة ستقضي - في المدى القريب - على هذه المهنة التي تكلف غالياً لأنّها تضيع على الشركات والهيئات الرسمية أوقاتاً نفيسةً. ويجدر مع ذلك التخفيف من حدّة هذا الانتقاد لأنّ الرقمنة والأتمتة قد هيمنتا على سائر مجالات الحياة وطاولتا ميادين لا تخطر على بال مثل إجراء العمليات الجراحية الدقيقة.
فالترجمة الآلية إذن قَدرٌ لا مفرّ منه، ولا داعي لشنّ حرب عليها؛ فهي تسود اليوم لدى صغار الطلبة كما لدى أرقى مكاتب الترجمة ومؤسّسات الدولة، بل وحتى الهيئات العالمية. فالمطلوب الآن ليس نقداً مثالياً يُصبح هو الآخر آليّاً، بل عمل دؤوب لتحسين أداء الآلة في الترجمة، بحيث يظلّ الإنسان هو المشرف والمرجع الأوّل والأخير، الذي يمدّها بالموارد اللازمة ويقيها من الوقوع في فخاخ الحرفية وتكرار الأسلوب وتجاهل المرجعيات الثقافية. وبهذا المعنى، تصبح هذه الوسائط مجرّد أداة ضمن أدوات أُخرى كالمعاجم والموسوعات، حيث إنّ مرجع النصّ مادّة كثيفة وليس روحاً مجرّدة.
ويحقّ لنا مع ذلك أن نسعى إلى محاربة الانحياز الرقمي لهذا الذكاء الاصطناعي الذي يتدخّل في الترجمة، عندما يتعلّق الأمر بالشأن الفلسطيني، ذلك أنّ ذاكرته قد شُحنت أساساً بالسردية الإسرائيلية التي تتسلّل إلى المضامين فتُحوّرها بما يتلاءم معها وتحذف العبارات والجمل المتعاطفة مع القضية، ممّا يجعل المتلقّي أمام النصّ المقترح عاجزاً في الغالب: إمّا أن يقبله غافلاً، فيمرّر بذلك الرواية الظالمة، وإما أن يُجبر على التعديل فلا يقدر، وهو المهووس بربح الوقت والزاهد في المراجعة في الوقت الذي تحتلّ فيه الآلة ما تبقّى من حرّيات العقول.
* باحث وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس