كيف يفكّر العرب في المسرح؟

01 ابريل 2023
الممثلة والمخرجة المسرحية اللبنانية البارزة نضال الأشقر، 16 شباط/فبراير 2022 (Getty)
+ الخط -

وأنا أقرأ كلمة اليوم العالمي للمسرح، والتي كتبتها الفنّانة سميحة أيوب من مصر، أثارني السؤال: كيف يفكّر العرب في المسرح؟ يمكن أن نبحث عن الجواب عبر ما صنعه العرب من مسرح، أو عبر ما كتبوه عنه. ولكن كيف يمكن الإلمام بهذا الكمّ الهائل ممّا كتبه العرب عن المسرح؟

يمكن العثور على عيّنة صغيرة وذات دلالة ممثَّلة في ما كتبه المسرحيّون العرب في اليوم العالمي واليوم العربي للمسرح.. عندما نقرأ كلّ الكلمات، سنجد أنّ المسرحيّين العرب ربما تكلّموا عن أشياء كثيرة لها علاقة بالمسرح، ولم يتكلّموا كفاية عن المسرح وصناعته.

كان حاكم الشارقة، سلطان بن محمد القاسمي، باعتباره كاتباً مسرحياً، قد ألقى كلمة اليوم العالمي للمسرح سنة 2007، وبعده سنة 2023 كتبتها سميحة أيوب، وبينهما تعاقب على كتابة رسالة المسرح العربي التي تحتضنها "الهيئة العربية للمسرح" حوالي 14 مسرحيّاً عربياً من مشارب مختلفة. بمعنى أننا نملك حوالي 15 رسالة حول المسرح كتبها العرب، كتّاباً ومخرجين وممثّلين ونقّاداً. وأغلبهم ممثّلون ومخرجون... وهي عيّنة دالّة ومُعبّرة عن المسرح العربي، فكيف يفكّر العرب في المسرح؟

المسرح، إلى حدود اللحظة، إبداعٌ شخصي في العالم العربي

المسرحي العربي جاء إلى المسرح صدفةً أو ما شابهها، وارتبط بهذا الفن بشكل أبدي، وسخّره للنضال والارتباط بهموم الناس وآمال المجتمعات، "تعرّفتُ إليه عشقاً وحبّاً منذ نعومة أظفاري... ولم أدرك جوهره إلّا عندما تصدّيت لتأليف وإخراج وتمثيل عمل مسرحي سياسي أغضب السلطة حينها" (القاسمي)، ثمّ "جئت إلى المسرح لأنّه كان حلمي. المسرح هو فنّ الوهم الذي يؤازر الحقيقة ويقف في وجه الأكاذيب" (الجزائري سيد أحمد أقومي، 2019)، وأغلب المسرحيّين على هذا المنوال، فلا أحد منهم جاء إلى المسرح من التكوين المسرحي، أو من مهنة المخرج أو الكاتب أو السينوغراف... المسرح إبداع شخصي لحدود اللحظة في العالم العربي.

غالباً ما يُشكّك المسرحيُّ العربي في وضعية المسرح الآن، فهو ليس بخير (السوري فرحان بلبل، 2018). و"ليكُنْ مسرحُنا مسرحَ الحقيقةِ لا مسرحَ الخداع، مسرحَ الوعيِ لا مسرحَ التضليل" (الأردني حاتم السيّد، 2017)، لأنّنا "لا نريد مسرحاً للنخبة أو لفئة قليلة في بلداننا التي ترزح تحت نير الحروب والجوع والفقر والمرض" (السوداني يوسف عيدابي، 2015)، فالمسرح إمّا ضعيف هزال، وإمّا مطلوبٌ أن يكون شيئاً آخر غير ما هو هنا والآن... "هذا الزمن الذي تردّى فيه فنّ المسرح العربي إلى أسفل سافلين، فصار مبتذلاً ملطّخاً قذراً كمنديل الطبّاخ، لأنّه في متناول من هبّ ودبّ من بني آدم لا من العارفين" (التونسي عز الدين المدني، 2010)، فالمسرحي العربي دائماً يرفع من وضع مسرح منهار، وهو غير مسؤول عن انهياره أو ضعفه أو أزمته... ما سبب أزمة المسر ح العربي؟ هناك أسباب كثيرة، والمسؤولون عنها غرباء أو جهلاء تمكنّوا من المسرح. من هُم؟ لا ندري، ولكنّ المسرحي العربي يكون دائماً مُنقذاً من الضلال المسرحي.

لنمرّ إلى الأعمق، يؤمن العرب بأنّ المسرح صنو للحياة، بل هو الحياة نفسُها في أرقى أشكالها، ووظيفتُه إذن هي الرفع من قيمة الحياة؛ وإشعال الشموع لطرد الظلام والظلم والشرور... فالمسرح "عامل توحُّد إنساني يستطيع من خلاله الإنسان أن يُغلّف العالم بالمحبة والسلام" (القاسمي، 2007) و"المسرح تنوير ومن ثمّ معرفة، لأنّه لا ينفصل عن نسيج المجتمع، ولأنّه مندمج في حياة المدينة وفي تاريخها ومستقبلها (المدني، 2010) ولهذا، فالمسرح: "لا بدّ أن يقوم أبناؤه منتفضين على واقع الحال، ليعيدوا صياغة عالم يخرج من رحم المأساة سالماً معافىً وشامخاً، فيقدّم الخير والجمال لتدبّ خطى الفرح فوق خشبته من جديد" (الكويتية سعاد السالم، 2012).

أمّا المغربية ثريا جبران، فتعتبر أنّه "سيكون علينا أن نُبْدعَ مَسْرحاً عَربياً جديداً يتجاوَبُ مع الروح العَرَبية الجديدة، على ألّا يكون مسرحاً سريعاً وخطابياً وشِعَاريّاً. فلا مجال لمسْرَح المناسبات والمواسم" (2013).

لم يتحدّث أحدٌ عن تحديات التمثيل أو الإخراج أو الجمهور

أغلبُ من كتب من العرب عن اليوم العالمي أو العربي للمسرح يُشدّد على وظيفته في إعلاء القيم النبيلة، ومواجهة موجات الدمار والتخلّف، وإعادة بثّ الحياة النقية... هي وظيفةٌ نبيلةٌ حقّاً، ومطلوبٌ من أيّ فنّ أن يجعل منها قيمة أساسية له... ولهذا يُكرّر المسرحيون العربي الدعوات والنداءات: "فيا أهل المسرح، تعالوا معنا، لنجعل المسرح مدرسة للأخلاق والحرية" (القاسمي، 2014)، و "يا أهل المسرح، استيقظوا" (عيدابي، 2015) فـ"نحن ولا أحد غيرنا... نمتلك القدرة على بثّ الحياة... فلنبثّها معناً من أجل عالم واحد وإنسانية واحدة" (سميحة أيوب، 2023).

وبعد التركيز على وظيفة المسرح، يُركّز العرب على علاقة شعرية مع المسرح، غالباً ما تكون علاقة حالمة، فأغلب النماذج التي طالعنا تخاطب المسرح بلغة الشعر، وهو تكرار غريب: "هل من شمس تشعل العالم برقصة كونية وبشرٍ كونيّين، شغوفين ومغرمين بالمسرح، ملاذنا العظيم؟" (العراقي جواد الأسدي، 2023)، و"المسرحُ كتيبةٌ كاملةٌ من الإِراداتِ الخَيِّرةِ التي تَصْنَعُ الجَمَال" بالنسبة إلى ثريا جبران. ويقول يوسف عيدابي: "نريد المسرحَ بدراً في ليل الأوطانِ، ونوراً في دروبها"، أمّا بالنسبة إلى الفلسطيني زيناتي قدسية، فـ"الخشبة ابتلعت كلّ العمر... هي وحدها تفتح روحي لما لا يمكن سمعُه" (2016).

هكذا، فإنّ رجلَ المسرح العربي جاء إلى المسرح صدفةً أو بتقدير فملك شغافه، ولكنّ ما يهمّ المسرحي وظيفةُ المسرح في الرفع من منسوب الإنسانية ومواجهة السلطة والديكتاتورية وكلّ القوى التي تعصف بكرامة الإنسان... وفي هذا يحلم المسرحيون العرب بالمسرح ويتمنّون أن ينهض من ضعف وهزاله...

ولكنّ من المثير أن لا أحد من المسرحيّين تكلّم عن صناعة الفرجة المسرحية، لم يتحدّث أحد منهم عن التحديات أمام التمثيل أو الإخراج أو الجمهور، والتي يواجهها المسرح مع تطوُّر الناس والبلدان... منهم من تكلّم عن تحدّيات عمله ضدّ أنظمة سياسية فاسدة، ولكنّي للأسف لم أجد في كلمات المسرحيّين طرحاً حقيقياً لصناعة المسرح. نعم نريد مسرحاً يضعنا في العالَم، ويحتفي بالحرية، ويُعلي من قيمة الحياة والإنسان، ولكن كيف؟ بأيّ أدوات وأساليب تمثيلية وسينوغرافية وإخراجية ودراماتورجية نحقّق هذه الوظيفة النبيلة؟ لا جواب.

يكاد يُستثنى من هذا ربما الفنّان البحريني خليفة العريفي الذي أنهى كلمته (2020) بضرورة توجُّه المسرح العربي نحو الصورة... ولكنّ أغلب المسرحيّين توقفوا عن إعلان النوايا.

إنّه مثير للغاية أنّ مُخرجاً مسرحيّاً عربيّاً بمستوى جواد الأسدي لا يضمّن كلمته لليوم العربي للمسرح (2023) أيّة إشارة إلى التحدّيات التي تواجه لغة الإخراج في المسرح العربي، وكيف أسّس لغته الخاصّة به، واسترسل في بكائيات حول وضع الثقافة والمسرح المنهار في مجتمعات عربية متخلّفة تحكمها أنظمة تشجّع التجارة والاستهلاك على حساب المسرح والإبداع... ليُنهي كلمته بحلم بروز "بشر كونيّين شغوفين بالمسرح الذي هو ملاذنا العظيم". وهَبْ تحقَّق هذا الحلم يا جواد، فكيف سنصنع المسرح مع هذا البشر الكوني؟

لهذا، نحسّ بأن كلمات المسرح، حين يكتبها العرب، تُكرّر نفسها، وتقف عند غايات المسرح ووظائفه، ولا تُقدّم معرفة إجرائية بصناعة المسرح، ولا تكشف عن تحدّيات صناعة الفرجة في الحاضر، بمعنى أنّها لا تُسهم في صناعة الفرجة المسرحية عالمياً.


* مسرحي وناقد من المغرب

المساهمون