إنّنا في أفسس، تلك المدينة المليئة بالمُحتالين والسَّحَرة القادرين على خداع العَين. إنّهم سحَرة بارعون يقدرون على تغيير آرائنا وأحكامنا الأكثر عقلانية، سحَرةٌ قادرون على الفتْكِ بالجسد الآدمي وتشويهه. إنّهم سحَرة مُتنكّرون يلبسون أقنعة الدَّجل والخطيئة، ويقدرون على جعل الحقيقة تُخطَأ، والخطأ يلبس ثوب الحقيقي.
إلى هذه المدينة يصل التوأمان المُتمَاثلان اللّذان فُرِّق بينهما لحظةَ الولادة: أنتيفولوس السرقوسي، وخادمه دروميو السرقوسي. لقد تبيَّن لهُما أنّ هذه المدينة هي موطنُ أخويهما التوأمين أنتيفولوس الأفسوسي، وخادمه دروميو الأفسوسي. عندما يُقابل السرقوسيان - نسبة إلى مدينة سرقوسة - أصدقاء وأقارب أخويهما التوأمين، تجري سلسلة من الحوادث المؤسِفة بسبب الخلط بين الشخصيات، ويمتزج كلُّ شيء: الحقيقة والكذب، وما هو حقيقي مع ما هو خاطئ، إلى درجة أنَّ مُشاهِد العمل نفسه سيشعر أنّ الحقيقة لا يُمكن أن توجد إلّا من خلال الخطأ.
هذه هي حبكة مسرحية "كوميديا الأخطاء"، لكاتبها الإنكليزي وليام شكسبير (1564 - 1616)، والتي بدأ عرضُها على خشبة "المسرح الروماني" في مدينة ماردة الإسبانية، الأربعاء الماضي، واستمرّ حتى أول أمس الأحد، وذلك ضمن فعاليات النسخة التاسعة والستين من "المهرجان الدولي للمسرح الكلاسيكي"، التي تتواصل بالمدينة الإسبانية، حتى نهاية الشهر الجاري.
يتناول العمل قضية الحقيقة في عالم مليء بالكذب والأخطاء
يتناول العمل قضية الحقيقة ويتساءل عن وجودها، ففي حال وُجدت في هذا العالَم المليء بالكذب، ماذا تكون؟ وكيف نعثر عليها؟ ثمَّ هل ثمّة أصلٌ لكلّ ما نُسمِّيه بالحقيقي؟ وأين ترقُد أُسُس الأجوبة الحقيقية؟ ولكن، أليس هناك احتمالٌ بأن يكون الخطأ هو الجواب على كلّ تلك الأسئلة؟ هذه الأسئلة وغيرها ستظهر عندما تتشابك أحداث المسرحية، ويلتقي التوائم، ولا يُعرَف أحدٌ مِن الآخَر.
ولن يتوقّف الأمر عند ذلك فحسب، بل وبأسلوب كوميدي، سيُسيطر الخطأ على كلّ شيء وتبدأ سلسلة من الأحداث المُضحِكة: الزوجات سيفشَلْن في التعرُّف على أزواجهنّ التوائم، والجواهر ستقع في الأيدي الخاطئة، والديون لن تجدَ من يُسدّدها إلى أصحابها، أو في أحسن الأحوال لن يُعرف مَن الشخصية الحقيقية التي استدانت المبالغ المالية. هكذا، خطأٌ بعد خطأ، سيشعر المُشاهِد أنّ شخصيات المسرحية تشيطَنت وأصبح كلُّ شيءٍ مُربكٌ ومُحيِّر، إلى أن تظهر فجأة على خشبة المسرح امرأةٌ، قد تكون كاهنة وقد لا تكون، قد تكون عذراء وقد لا تكون، لكنّها، في جميع الأحوال، ستحلّ كثيراً من الألغاز، وستزيد من غموض ألغازٍ أُخرى.
احتمالٌ بأن يكون الخطأ هو الجواب على كلّ تلك الأسئلة
العَرْض الذي أخرجه المُمثّل والمخرج الإسباني أندريس ليما، عن نصٍّ شكسبيريٍّ بامتياز قام بتطويره دراماتورجياً الكاتب الكتلاني ألبرتو بورونات، لقي إقبالاً جماهيرياً كبيراً، تجاوز الثلاثة آلاف مُشاهد في اليوم الأول من العرض. وقد بدت واضحة البصمات التي اشتغلها كلٌّ من ليما وبورونات على النسخة الشكسبيرية، حيث قاما بخلق شخصيّة الراوي، الذي راح يتدخّل في عُمق الحدث المسرحي كي يُوضّح للمُشاهِدين التعقيدات الموجودة بين التوائم الأربعة.
ومن البصمات الأُخرى التي أضافها المخرج الإسباني على العمل كانت الموسيقى الإلكترونية التي رافقت العديد من المَشاهد السريعة، والتي منحت المُمثّلين إيقاعاً سريعاً يواكب المشهد والحوارات، والمواقف الطريفة.
يُذكَر أنّ "كوميديا الأخطاء" من أعمال المسرحي الإنكليزي المُبكّرة - إنْ لم تكُن الأولى - فقد ألَّفها بين عامي 1592 و1594، وهي من أقصر مسرحياته (100 دقيقة)، وأشدّها هزلاً، كما أنه راعى فيها وحدات المسرح الثلاث.