بعد التفشّي العالمي لفيروس كورنا المستجدّ وما تبعه من حجر صحي صارم في إطار الاحترازات المعمول بها، اضطرّت المتاحف في معظم أرجاء العالم إلى إغلاق أبوابها منذ أزيد من سنة، وقد تكبّدت خسائر مالية جرّاء الإغلاق المستمر. ورغم توقُّف فعالياتها الحضورية، استطاعت عدّة متاحف عالمية تكييف أنشطتها وجعلها افتراضية بالدرجة الأولى، كبديل رقمي في زمن الجائحة.
أكثر من هذا، سعت بعض المتاحف الغربية منذ بداية الجائحة وإلى اليوم إلى أرشفة معظم المظاهر الحياتية الحالية التي أوجدتها الأزمة الراهنة قدر الإمكان، وذلك من أجل حفظ الذاكرة المَعيشة عن الجائحة، حيث تهدف إلى جمع عيّنات متنوّعة توثّق للمرحلة، مثل الصور الفوتوغرافية للساحات الفارغة، والتسجيلات المرئية والصوتية، والمذكّرات واليوميات التي كُتبت عن الجائحة وموجاتها، بل والكمّامات ذاتها، وهي كلّها وسائط مادية من المؤكَّد أنها ستدخل الأرشيفات، وستُخصَّص لها أروقة مستقلّة، ممّا يشكل حقلَ عملٍ مستجدّ لتلك المتاحف. لكن كيف يمكن هنا تحديد العيّنات المهمّة ذاكرياً وتاريخياً ضمن عملية التجميع المتحفية الراهنة؟
لا يمكن حالياً الإجابة عن هذا السؤال بدقّة عن طريق سرد لائحة من تلك العيّنات المطلوبة، غير أنّ هذه المتاحف تسعى أوّلاً لجمع أكبر عدد ممكن من تلك العناصر المادية وغير المادية المرتبطة بالأزمة إلى أن تحين مرحلة فرزها وتقديمها بشكل نهائي للجمهور بوصفها جزءاً من معروضاتها المستقبلية، بل وحتى للأجيال القادمة. لذا توجَّهَت بعض المتاحف الأوروبية بتعاوُن مع جامعات عدّة، ولا سيما في كلٍّ من ألمانيا وسويسرا وفرنسا، مثل متاحف وجامعات هامبورغ وكولونيا وميونيخ، بطلب إلى السكّان بعدم التخلُّص من الأشياء التي شكّلت الحياة اليومية إبان تفشّي موجات جائحة كورونا وأثناء فترات الحجر الصحّي، بل تصويرها وإرسالها إليها رقمياً أو بريدياً، فتجميع هذه العينات المرسَلة يجعلها تنتقل من مجرّد أشياء مخصوصة بالحياة الشخصية للأفراد إلى كونها محتويات مُشكِّلة لذاكرة جمعية مشتركة عن الجائحة. وبفضل الهاتف الذكي، الذي يتيح إمكانيات كبيرة لإنشاء وتخزين وإرسال محتويات متعدّدة الوسائط من صوَر ونصوص وصوتيات ومرئيات، أمكن ويمكن توثيق الحياة اليومية في ظلّ الجائحة بشكل أكثر يُسراً مقارنةً بأي وقت وبائي مضى.
تجمع المتاحف أشياء شكّلت الحياة اليومية في الجائحة
يُعتبر "متحف فيينا" من بين أوائل المتاحف العالمية التي خصَّصت حيزاً رقمياً لعرض تلك العيّنات، معتبراً أنها ستحتلّ أهمية أرشيفية وثقافية كبيرة في المستقبل. ويتيح الموقع الرسمي للمتحف على شبكة الإنترنت لزوّاره مجموعة من الوثائق والعيّنات والمقاطع المصورة، بعضها لا يخلو من إبداع وطرافة. هذا إضافة إلى عرض تسجيلات رقمية غير مألوفة لحفلات موسيقية مُصغّرة أقيمت على شُرفات وأسطح المنازل، وهي مشاهد لم تُسجَّل في أوقات الأوبئة السابقة.
نفس النهج اتّبعَه "متحف موسيم" في مدينة مرسيليا الفرنسية، والذي تمكَّن من الحصول على عيّنات مادية من فترات الحجر المتتابعة في فرنسا، والتي لا تزال تخضع حالياً للفرز. أمّا "المتحف التاريخي الألماني" في برلين، فقد اعتبر هذه الجائحة منذ البداية فرصةً لعمل متحفي جديد، تنضاف إلى المجموعات التي يمتلكها سلفاً وموضوعها "ذاكرة الأوبئة"، والمخصَّصة لمعروضات متنوّعة عن الأوبئة الماضية مثل الطاعون والكوليرا والحمّى الإسبانية، حيث تضم، على سبيل المثال، عينات طبية للإجراءات، التي كانت متَّبَعة في مكافحة الأمراض، إلى جانب قطع الأدوات التي كانت تُستخدَم في الحجر الطبي.
وعلى المستوى الرقمي، تأسّست في سويسرا مبادرة "ذاكرة كورونا"، وهي أرشيف رقمي تشاركي، يتم فيه تلقّي ذكريات الأفراد على شكل نصوص وتسجيلات وصور حول هذه الفترة الاستثنائية بغرض حفظها وجعلها في المتناول لمدة طويلة. والمبادرة هي ثمرة تعاون وتنسيق بين جهات متنوّعة من جامعات ومتاحف ومؤسّسات عامة وخاصة.
قد تحتل العيّنات أهمية أرشيفية وثقافية كبيرة في المستقبل
إلى جانب هذا، نجد مبادرة جامعية مشابهة أُطلقت تحت مُسمّى "أرشيف كورونا"، وهو منصة رقمية، أُسّست في ألمانيا من طرف كل من جامعات هامبورغ وبوخوم وغيسن، وهي تتيح تخزين وحفظ تجارب وذكريات فردية مع الجائحة، حيث يمكن تقاسُم عدّة وسائط، مثل الصور الفوتوغرافية أو مقاطع الفيديو أو الملفات الصوتية أو النصوص المكتوبة وغيرها من الوسائط الرقمية.
وهدف إنشاء المنصّة هو التعرّف على الكيفيات والأنماط التي يتم فيها التحدّث عن الجائحة وطبيعة الذكريات المَعيشة والمترتّبة عنها بعد نهاية هذه الأزمة، والتي طرحت أمام الجميع تحديات اقتصادية واجتماعية وثقافية مستجدّة، والملاحَظ هنا أنّ دعوة هذه المبادرة لا تخصّ البالغين فقط، حيث يُطلب حتى من الأطفال، التعبير عن مشاعرهم اتجاه المرحلة الجائحية، في محاولة لفهم ذكريات الطفولة ومدى اختلافها عن ذكريات البالغين، لا سيما وأن الإجراءات الاحترازية قد فرضت أيضاً إغلاق المدارس في معظم دول العالم لشهور طويلة في ظل حجر منزلي غير مألوف استمر لشهور ولا يزال في العديد من مناطق العالم، ومنها المنطقة العربية.
وهنا نطرح التساؤل حول طبيعة التعاطي المتحفي العربي مع المرحلة الجائحية: هل فكرت المتاحف العربية بدورها في هذا الحقل الأرشيفي المستجدّ؟ وما هي المبادرات التي أطلقتها من أجل توثيق ذاكرة الجائحة في سياقها العربي الثقافي. والأهم: ما الذي يمكن أن تسرده أو تقدمه المتاحف العربية عن فترة الجائحة في مرحلة ما بعد كورونا؟
* كاتب مغربي مقيم في ألمانيا