كأنه ميراث لم تتعب فيه

03 يناير 2023
منظر من إسطنبول في لوحة لـ ديفريم اربيل
+ الخط -

في أحد الأيام، ربما منذ عشر سنوات، قال لي أحد المعلمين: "أنت تنفق ذكاءك كأنه ميراث لم تتعب فيه! صحيح.. لقد بددت ذكائي وأفلست أخيرًا. لم يبقَ لي أي شيء.. كنت أظن أن الذكاء مثل الراديوم لا ينتهي.. لم أكن أعلم أن الذكاء شيء يطوره الإنسان.. لم أكن أرغب في أن أكون شخصًا جيدًا، ولكن شخصًا مختلفًا. لم أكن أريد أن أفعل شيئًا، لكنني كنت أريد أن أصعد إلى مكان ما وأنظر باستخفاف إلى الذين يفعلون شيئًا.. ومع ذلك، مَن أنا اليوم في الزمان والمسافة الأبديين؟ أنا مخلوق أقل قيمة وأهمية من الدودة ومن جذر النجيل!

سكت عمر منهكًا، وكان فمه وعيناه وحتى جلده جافًّا، وكأنه سيتصدع. أمسك بدري بيد صديقه وأراد أن يداعبهما. تراجع عمر على الفور قائلًا: "سيُطلق سراحي اليوم! جاء الأمر من المدعي العام. ويقوم مدير السجن بإنهاء الأوراق.. سأخرج الآن، ولأجل هذا أرسلت ماجدة.. فكرت أنه من المحتمل إذا خرجنا معًا، فمن الممكن ألا ننفصل أو كنت سأرغب في رؤيتها للمرة الأخيرة.. وكم أرغب في ذلك".

كان صوته يرتجف، وعيناه مثبتتان على جير الغرفة الأبيض. استجمع نفسه بقوة، وقال:
- تفهمني يا بدري، أليس كذلك؟ لا تبحثا عني.. ربما سأذهب إلى باليك كسير. وربما سأذهب إلى مكان آخر وأحاول مع نفسي من جديد. وربما سأبدأ حياة جديدة بالدخول في وسط لا يشبه محيطي القديم. ولكن يجب أن أقطع علاقتي بالأيام القديمة.. ومَن يدري.. ربما في زمن آخر نلتقي مرة أخرى ونكون أشخاصًا آخرين، ونتصافح ونحن نبتسم. لا حاجة إلى الحديث عن ماجدة الآن. سأتركها لك بثقة. أعلم أنك تحبها بصدق وبقدر ما أحبها، ويمكنك حمايتها أكثر مني! وسوف ترى، ستعتاد عليك تدريجيًّا.. ولكن لتتركها لبعض الوقت.. لقد أعطاها رجلٌ العديدَ من التجارب المؤلمة، وربما لا تريد أن تكون مع أي شخص آخر حتى تنسى هذه التجارب.. أنت تفهم هذا وتفكر فيه أفضل مني.. داوها كطبيب، لا يوجد في العالم مخلوق أروع منها. بدري، أقسم لك أنه لا يوجد شيء أكثر قيمة من ماجدة.. اعرفْ قدرها!

وقف على الفور واستدار إلى الخلف، وأخذ ورقة الإخلاء من الحارس، ومشى نحو الباب.  كان بدري يأتي من خلفه. توقفا بعد أن خرجا، ومد عمر ذراعه اليمنى وبدلًا من أن يصافحه بدري عانقه، وفي هذه الأثناء كان عمر يرتجف.
 
بعد أن افترقا، نزل عمر إلى أحد الشوارع الضيقة التي تنحدر إلى البحر. سار بدري ببطء نحو المقهى الذي تنتظره ماجدة فيه. 
 
لم يكن يفكر فيما يجب أن يفعل، وكيف سيشرح لماجدة كل شيء. فقط كان يفكر في عمر، صديقه عمر، الذي تحبه ماجدة، وربما ستظل تحبه دائمًا. عمر الذي رغم كل شيء، كان يراه بدري أكثر سعادة منه.
 
وقفت الفتاة عندما رأت بدري، وسألت:
- ماذا فعلت؟ 
 
- أُطلق سراح عمر.. لكن…
 
فكر قليلًا وهو يبحث عن كلمة، ثم أدار رأسه وتمتم:
- لكنه ذهب، وقال لا تبحثا عني! لا أنت ولا ماجدة. يريد أن يبقى وحيدًا، ويجرب حياة جديدة.. لا يشعر أن لديه القوة الكافية لتحمل مسؤولية شخصين!
 
سكت مرة أخرى، وكانت ماجدة صامتة أيضًا وتحدق فيه. مشيا معًا دون أن يتحدثا، وأخيرًا قال بدري:
- كان واضحًا أن هذا الأمر سينتهي هكذا!
 
قالت ماجدة وكأنها تحدث نفسها:
- نعم، كان واضحًا!
 
أراد بدري أن يقول شيئًا آخر، لكنه لم يجرؤ على ذلك. سألت ماجدة بعدما رأت حركات شفتيه:
- ماذا قلت؟
 
- لا شيء.. سنذهب إلى بيتكما الآن، وسآخذ أغراض عمر، وسأتركها في مكان يتردد عليه. ثم...
 
عقد لسانه مرة أخرى. كانت ماجدة تتطلع أمامها وتنصت إليه، وهو ما أكسبه الشجاعة ليقول:
- أُختي تموت! يقول الأطباء إن لديها يومًا أو يومين.. هل تنتقلين إلى بيتي بعد ذلك؟ وتتسلى أمي معكِ؟

ارتعد بدري وكأنه قال شيئًا في غير محله، وانتظر جواب ماجدة بخوف، لكنها قالت بصوت طبيعي:
- لماذا فقدت الأمل؟ أختك ما زالت شابة.. سأعتني أنا بها.
 
قال بدري ما قاله قبل قليل، دون أن ينسى زيارة أخته لماجدة، ولذلك أضافت ماجدة:
- لقد نسيتُ كل شيء!
 
كانت ماجدة ترى بدري حزينًا ومنزعجًا، وكانت تشفق عليه. أمسكت بذراعه من أجل أن تمنحه بعض القوة. مشيا من السلطان أحمد، وشعرت ماجدة وكأن أحدًا يشدها من رقبتها. وكان بداخلها صوت غريب يدفعها لمقاومة هذا الشعور. لم تستطع مقاومة ذلك، وأدارت رأسها إلى الخلف. 
 
كان عمر قادمًا من ورائهما، ثم عاد في نفس اللحظة التي أدرات فيها رأسها. أحنى عمر رأسه إلى الأمام قليلًا، ومشى ببطء. 
 
توقفت ماجدة وتركت ذراع بدري، وقلبها يخفق بشكل جنوني. كانت تمر من أمام عينيها الكثير من الأحلام والمناظر والناس والدخان والألوان.. لكن هذه الحالة استمرت للحظة فقط. واستجمعت نفسها على الفور، وأمسكت ذراع بدري من جديد، وقالت:
- لا.. لا.. لنذهبْ!
 
هزّ رأسه وفي عينيه حزن أبدي، وقال:
- نعم لنذهبْ.
 
بعد عدة خطوات، التفت بدري ورأى أن عمر قد اختفى، فقال:
- لن تقدري على نسيانه! ولن تقدري على فراقه!
 
حدقت ماجدة في عينيه بعينين متأملتين، ثم وضعت يدها في جيبها وأخرجت الرسالة التي كتبتها إلى عمر، وقالت:
- ليس الأمر كذلك يا بدري. لقد أخذت قرار الانفصال من قبله رغم كل شيء!

مدت إليه الأوراق التي في يديها، وتمتمت:
- ولكن يجب الانتظار لوقت طويل!


* ترجمة عن التركية: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، والنص المقتطف هنا مقطع من رواية "الشيطان الذي بداخلنا" الصادرة حديثاً عن دار "مرايا" في الكويت. 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون