من العنوان تُقرأ رواية الكاتب السوري راتب شعبو (1963)، وكأنَّها صوت قادم من عمق الوادي، أو من جبل آخر يفصلنا عنه الوادي. الرواية الصادرة عن "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر" بعنوان "كأجراس بعيدة"، تَقرعُ بالفعل برتابة المثابَرة في وجدان القارئ، وفي ذاكرته، لأنَّها تروي حكاية أثر زائل. وترويها عن مسافة زمنية، تجعل من الماضي زمناً جميلاً.
الرواية عن ريف اللاذقية. ومن خلال هذا الريف، هي رواية عن مصير البشر، عن مصير مكتمل أساساً. إذ تروي حكاية بشر رحلوا. وليس من المبالغة القول إنَّها تروي حكاية بلد رحَل، وكُلُّ ما في الرواية يشيرُ إلى الانقضاء؛ الرواية نفسها، بدءاً من العنوان، رَجعُ ذلك الانقضاء، رجعٌ بعيد وتكراري لذلك الصوت الذي ابتعد في الوادي. الوادي الذي قد يكون الزمنَ بذاته، وقد يكون الاقتتال الذي شهده بلد الكاتب، وقد يكون النظام الذي غَرَّب البشر عن أنفسهم. وتتلخّص هذه الدلالات كلّها في معمل الأسفلت.
وثيقة جمالية لقرى عاشت زمانها الخاص في الهامش
الرواية صوت ذاتي، قادم من تجربة الكاتب الذي اعتُقل لمدة ستة عشر عاماً بتُهمة سياسية. لكنَّ وصفَها بأنَّها نص ذاتي، فيهِ شيءٌ من القِلّة؛ لأنَّها ليست عن ذات الكاتب، وإنَّما هي أوسع منها، وخارجها. إنَّها ذاتية المكان، ذاتية القرية التي يروي حكايتها، وذاتية بشرها، الذين يروي مصائرهم المكتملة. يروي سِيرهم، كبشر زائلين. وقد صاغ شعبو فضاءً سردياً خاصَّاً. فهو لا يختصم في السياسة. وإنَّما وضوح موقف الرواية، جعل منها نصَّاً يلتفت إلى ما هو أبعد من السِّجال السياسي. إذ يبني على وضوح موقف النَّص؛ جماليات مرتبطة بالناس أنفسهم، وبثقافتهم العادية، وبمحاولاتهم الفِكاك من لعنة العيش تحت سطوة القمع والخوف.
الرواية تَقرع في وجدان القارئ أجراساً نحتَتْها استطالة الزمن أو خُفوته. وفي مشاهد منها، تضرب بحساسية بالغة، عبر تفاصيل جارحة. كما عندما ترك شقيق راتب الدرّاجة الهوائية في حديقة الملعب البلدي في اللاذقية، لدى راتب، بعد أن علَّمه قيادتها. ليُعتقل في اليوم التالي، ويُقاد إلى "سجن المَزّة". وكأنَّما حرمان الأخ، علَّم راتب أيضاً شيئاً عن بتر الآمال. لكنّ شقيقه سيخرج، عندما أخرجت سلطة البعث السجناء الشيوعيّين بهدف مقاومة تيار آخر، هو تيار الإخوان المسلمين. وهاتان الجبهتان، أطاحتا بوجهات نظر عديدة. لربما تمثّل رواية راتب شعبو إحدى الروايات التي أطاح بها التجاذُب بين القطبين.
لكنْ من غير أن تكون وثيقة، أو هي وثيقة جمالية، تُظهر السياسة في ضفافها البعيدة؛ تظهر جرساً من أجراس قرى عاشت زمانها الخاص في الهامش. زمانها الذي انتهى مع معمل الأسفلت، ومن ثمَّ انتهى زمن معمل الأسفلت نفسه. أيضاً من التفاصيل التي تترك أثراً، أو تلمس أثراً في دخيلة القارئ؛ عندما قرّر راتب الهرب من مدرسة القرية، والذهاب إلى اللاذقية كي يحضر مباراة كرة القدم مع زملائه. ومن ثمَّ قرّر ألَّا يصعد إلى الحافلة، كي لا يشغل والدته عليه. لأنَّ العودة ليست يسيرة. قد يكون هذا مشهداً عادياً، لولا أنَّ راتب، الكاتب، غلَّفه بوعي آخر. وهو الوعي بمسؤولية أنْ تكون حُرَّاً. ألَّا تكون مقموعاً داخل البيت. وبالتالي، أن يكون كُلُّ ما في البيت يَعنيك ويخصُّك وتهتمُّ لمآله.
تتأتَّى سياسيَّة النص، ليس من السياسة كما نألفها ونعرفها، وإنَّما للنَّص سياسته الخاصة. وهي سياسة صنعها قرويّون. أبلغ سِماتها، أن نُحبَّ، وأن نمنح، وأن نكون أخياراً وطيّبين. وهو ما تعبّر عنه إحدى الشخصيات بأنَّ الدواء لروح الإنسان هو محبّة الناس، وتمنّي الخير لهم. ولا مناص للقارئ الذي يرى السياسة التي تنتهجها الرواية في الإضاءة على هذا الجانب المرتبط بجوهر الحياة الريفية؛ من أن يضعها أمام سياسة العنف التي أطبقت على الناس، التي أحكمت عليهم، واحتكرت صورتهم، وطحنت مصائرهم بالكراهية.
إذاً، الرواية سياسيَّة. لا لكونها تتحدّث في بعض صفحاتها عن حادثة المدفعية، وعن فترة الملاحقات التي خبرها الكاتب، ودفعته إلى أن يطمر كتبه في الحقل، ودفعت بأخيه إلى أن يلتقي بوالدته بعد أن يرمي حجراً على سطح المنزل. ولا لكونها تُشير، بلا مواربة، إلى مصير البلد ككلّ في عام 2011؛ بل إنّها سياسية، لأنَّها تأتي - أسلوبياً - بما يقاوم عسف القمع، وعسف العصبيات والانتماءات التي دفعت السوريّين كثيراً لأن يظهروا طبقات، بينهم حواجز وعُقد وعصبيات أحدثتها سلطة البعث.
جمالياتٌ مرتبطة بثقافة الناس ومحاولتهم الفكاك من سطوة القمع
طبقات يحكمها الولاء السياسي، وأحياناً الوضع الاقتصادي، وأحياناً الانتماء الديني. وهذه إشارة. لا أكثر. لأنَّ أهمية الرواية ليست هنا فحسب، وليست في قراءة مجتمع سوري مغلق وهامشي بين زمن الثمانينيات، وفي أزمنته الراهنة؛ بل لأنَّها تُخرِج من صلب البشر أجمل ما لديهم. تظهرهم في لحظات إشراقهم أو ضعفهم. وحتَّى ما يظهر فيها من سياسة يظهر في الحياة العادية، في المُساواة الودِّية بين القرويّين. أو في استعارات يمكن أن تُقرأ سياسيّاً؛ كما في تلك الشخصية التي سمّاها موظف النفوس في الحفّة، سوريّة، وذهبتْ إلى بيروت، وتاهتْ في بيروت، وقيل إنَّهم رأوها تمشي في الحمرا بمرافقة أميركية. وأيضاً في مقارنته للسرطان الذي قتل أخته، بالسرطان الذي قتل بلده.
يزعم الراوي طوال السرد أنَّه يركن داخل قوقعةٍ رافقتهُ منذ طفولته، من جرّاء حساسية الأطفال وهم يرون الفقر ينمو معهم، والخوف السوري يكبر في داخلهم. وهم يرون معمل الأسفلت يغيّر مِنْ حياة مَنْ يُحيطون بهم، ويأكل بيوت القرية. لكنْ، كُلُّ ما في النص يُشير إلى شخص عاش خارج قوقعته. النص، صوتٌ ذاتي، لأنَّ فيهِ ملوحة التجربة ومرارتها، وفيه جمالها الجارح. ويظهر فيه حشد البشر الذين يحتفلون بطقوسهم التي تزول. وكأنَّما الرواية احتفاءٌ بزوالهم، فهي تتحدّث عن قرية في اللاذقية؛ تتحدّث عن استبدال "التنور" بالفرن، واستبدال الطبيعة بمعمل الأسفلت الذي غيَّر علاقات القوّة داخل القرية، وتتحدّث عن استبدالِ غَمر الناس لمُعارضي النظام في الثمانينيات، ومحاولتهم مساعدتهم على التخفّي والهرب، إلى جعل الناس يكرهون مُعارضي النظام. إذاً، الرواية عن زمان انتهى، وإعلان لزمانٍ من طبيعةٍ قهرت البشر، وخرّبت وعيهم.
* روائي من سورية