قصيدة النثر.. ليست خالصة للشعر

08 نوفمبر 2020
رامبو وبودلير في إحدى ضواحي باريس، 2015 (Getty)
+ الخط -

عندما ظهرت قصيدة النثر لأول مرة في الأدب العربي، كان هذا قبل قصيدة التفعيلة. ظهرت كأثر مباشر للاتصال بالغرب. لا بد أن أمين الريحاني وبشر فارس وبعدهما ألبير أديب كانوا، في لبنان ومصر، حصيلة مباشرة لقراءة ويتمان والسريالية الفرنسية. مع ذلك، لم تخصب هذه القصيدة آنذاك في الشعر العربي ولم تصبح موجة، وتكسّرت على حاجز القصيدة الموروثة. كان على قصيدة النثر أن تنتظر حتى الخمسينيات ولتتواصل، هي وقصيدة التفعيلة، وتبنيان، كل لنفسها، مساراً خاصاً. مع ذلك، بقيت قصيدة النثر، حتى أيامنا، غريبة ومثار جدل دائم. خرجت قصيدة التفعيلة من معترك الجدل، وفرضت نفسها وريثة شرعية للقصيدة العربية، وقُبلت على هذا الأساس، في ما تبقى قصيدة النثر أمام سؤال يتناول وجودها وشرعيتها.

لعل محمد الماغوط هو الوحيد الذي نجا من هذا الجدل، وقُبل على مضض، فيما بقي الآخرون، جميعهم تقريباً، أمام إنكار معلن، ليس فقط من شعراء ونقاد، ولكن أيضاً من جمهرة واسعة من قرّاء للشعر. لا يقرّ هؤلاء بشرعية لقصيدة النثر ويعتبرونها، فضلاً عن ذلك، افتعالاً بحتاً وادعاءً فحسب. أما أنصار هذه القصيدة، وهم في العادة من أهلها، فيردّون هذا الإنكار بدعوى أن الشعر لا يقوم على الوزن، الذي طالما نُظمت به مطوّلات يتفق الجميع على عدم انتسابها إلى الشعر، ألفية بن مالك على سبيل المثال. وبدعوى أن الوزن والقافية قد يثقلان الشعر، وقد يربكانه ويسوقانه إلى ما ليس شعراً، بينما لا تواجه قصيدة النثر عقبات كهذه، إذ تخلص للشعر كما هو في مبدئه وجوهره، وتقوم فقط به.

نمط آخر يحوّل الاحتفال إلى مهزلة والغناء إلى تمتمة

ينسى هؤلاء في حومة الجدل كل هذا التاريخ للشعر الذي لم تعقه القافية ولا الوزن عن أن يمتلئ بجوهره، وعلى أن يؤسس، بالتجربة عمارات يُستدلّ منها على حقيقته وجوهره. ذلك الماضي الطويل الذي اتصلت به قصيدة الوزن، وهي القصيدة كما عُرفت وكما انتظمت، لا يمكن أن نحيط به كله، بدون أن نعرف، أننا من هنا، عرفنا الشعر وفهمنا مبدأه وجوهره. إذا كان همّ بعض شعراء قصيدة النثر وأنصارها، أن يثبتوا أن قصيدة النثر بديل للشعر في كليته، وأن فيها شعراً أكثر وأنقى مما في قصيدة الوزن، فإننا هكذا لا نجد أنفسنا على طريق واضح. إذا لم يكن الوزن معياراً، فإن قصيدة النثر تحمل في اسمها كلمة النثر، والنثر غير الشعر، ولذا لا يصح أن تكون بديلاً للشعر، ولا يمكن أن تكون وحدها القصيدة.

ليست قصيدة النثر كما يرى مؤرخوها جديدة. لقد نشأت أبكر من ذلك في كل الآداب، ومنها الأدب العربي، بيد أنها انتشرت وتحولت إلى نمط دارج في هذا العصر، أي أنها نمت في عصر لم يتغيّر فيه مفهوم الشعر وحده، بل تغيّر فيه مفهوم الأدب نفسه. مع كافكا والرواية الجديدة تغيّر مفهوم الرواية، ومع مسرح المعقول أو العبث تغيّر مفهوم المسرح. كان ذلك جزءاً من ثورة شملت الفن كلّه، لذا لا تقوم قصيدة النثر عياراً للشعر، بل هي بدون أن تنفك عنه، أحد تجلياته، بل يمكن أن نقول إنها نمط آخر له، بالدرجة التي يسعنا فيها القول بأن قصيدة النثر نمط قائم بذاته، بل هي نمط جديد في الأدب، وليست بالطبع بديلاً من قصيدة الوزن، كما أنها، كما يدل اسمها، ليست خالصة للشعر. إنها نمط آخر من الشعر يشترك فيه النثر، إنها النص الذي يتولّد من اجتماع الشعر والنثر وحلول بعضهما في بعض.

نص يتولّد من اجتماع الشعر والنثر وحلول بعضهما في بعض

يمكن القول إنَّ الشعر، كما هو في قصيدة الوزن التي وحدها تختصّ بتسمية الشعر، كان في أصله غناءً ومديحاً. لعل المديح يمكن أن يُطلق، بعامّة على الشعر، إنه مديح العالم ومديح الحب، احتفال بالكون والحياة وليس هذا شأن النثر، بل ليس هذا شأن النثر إذا أضيف وأُخذ على كونه ركناً ثانياً لقصيدة النثر.

حين يدخل النثر في مخاض الشعر وولادته، فإن النص لا يبقى هنا مديحاً ولا تغنياً بالعالم والحياة. النص بهذا الازدواج هو أقرب إلى السلب، بل هو سلبي تماماً. لن يعود هكذا تغنياً، بل سيصير اعتراضاً ورفضاً ونقداً. قصيدة النثر، على هذا، لم تعد احتفالاً، إنها، على غرار النثر سلبية. هي قصيدة نفي وإنكار واعتراض، إنها قصيدة اللامعقول وقصيدة العبث، وعلى هذا ليست بديلاً من القصيدة. إنها نمط آخر يحوّل الاحتفال إلى مهزلة والغناء إلى تمتمة.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون