مفتَتَح
أيّها العالم الذي لا قلبَ له
عليك اللعنة
أيّتها الطائرات التي تُمطر الموت من السماء
عليك اللعنة
أيّتها النارُ التي تحرق الأخضر واليابس
وتمدُّ ألسنتها في كلّ مكان
عليك اللعنة
أيّتها الصواريخ والقنابل
التي تتبع رائحة دماء فرائسها من الأبرياء
مثل الطرائد الخائفة
عليك اللعنة
أيّتها البيوتُ التي خرّت سقوفها
وجدرانها فوق رؤوس وأجساد ساكنيها
واتخذت من أجسادهم بيوتًا لها
عليك اللعنة
أيّها المتفرجون من وراء شاشاتكم
دون أن يرفَّ لكم جفن أو تفرَّ من عيونكم
دمعة تفضح عجزكم
عليكم اللعنة
وأنتِ أيضًا أيّتها الكلمات الخرساء
التي أكتبك الآن محاولاً التعبير عن عجزي وغضبي
وحزني ويأسي وسخطي بلا طائلٍ
عليك اللعنة.
(1)
لكِ اللهُ يا غزّةَ الصابرةْ
من البطشِ والطعنةِ الغادرةْ
لك الصبرُ في وجه نارٍ تُصبُّ
عليكِ بأمواجها الهادرةْ
لك الجوعُ والظمأ المستبدُّ
وعتمتك الفجّةُ الفاجرةْ
لك الموتُ يأتيك من كل صوبٍ
بكلِّ مخالبهِ الكاسرةْ
لينهشَ لحمك نهشَ الوحوشِ
بكل صواريخه العابرةْ
لك المجدُ وحدك.. تبقين وحدك
صامدةً حرّةً صابرةْ
ونحن لنا ذلنا والهوانُ الذي
شلَّ بغدادَ والقاهرةْ
وشلَّ العروبةَ وهي التي أصبحتْ
بعروبتها كافرةْ
لك الخلدُ وحدكِ أنت الجديرةُ
بالخلد يا رحِمًا طاهرةْ
حَبِلتِ وما زلتِ بالمعجزاتِ
تضيءُ، وبالأعين الساهرةْ
عليكِ، فمنك ابتداءُ الوجودِ
وعندك تكتملُ الدائرة.
(2)
يموتون في غزّة الآنَ
يسقط منهم شهيدٌ
ليسلم رايته لشهيدٍ جديدْ
ينبتون على أرضها مثلما ينبتُ العشبُ
أو شجرُ البرتقالْ
يكتبون الرسائلَ بالدمِ لا الحبرِ لكنّ ساعي البريدْ
لا يُرى قادمًا من بعيدْ
فوق دراجةٍ
مثلما كان يفعل في زمنٍ مرَّ
مثل مرورِ الحقيقةِ
مسرعةً في سماء الخيالْ
يموتون في غزّة الآنَ
تُهدمُ فوق الرؤوس البيوتْ
يموتون لكنّ أسماءهم
مثل أصواتهم لا تموتْ
فما زال منها صدىً ظلَّ يعلو ويعلو
ليقضَّ مضاجعَ أعدائهم ويقولُ لهم:
إنّنا قادمون لكم من جديدْ
في زمانٍ سيأتي
وإن طال هذا التآمرُ
هذا التخاذلُ
هذا السكوتْ
لنحرّرَ منكم ترابَ الوطنْ
ذرةً ذرةً، ومياه الوطنْ
قطرةً قطرةً، وهواءَ الوطنْ
نفَسًا نفَسًا. إنّنا عائدونْ
من جديدٍ لننفضَ عنّا بياضَ الكفنْ
إننا عائدون لأرضِ الوطنْ!
(3)
إذا ما قيل لي:
ما المجدُ؟ ما العزة؟
أجبتُ بأنّها غزة!
إذا ما قيل لي: مَن أجملُ الشهداءْ؟
أجبتُ بأنهم من غادروا الدنيا
وما بلّوا حناجرهم بقطرةِ ماءْ.
إذا ما قيل لي:
ما تصنعُ الكلماتْ؟
أجبتُ بأنها تبكي علينا
لا على من ماتْ!
هُمُ الأحياءُ ما زالوا
ونحن جميعنا أمواتْ
فهم فعلوا وهم قالوا
وهم من بددوا الظلماتْ
هُمُ من مُزّقتْ أجسادهم
في الأرضِ تمزيقا
وما ذلوّا وما هانوا
كأنَّ الموتَ موسيقى
بها افتتنوا وساروا خلفها
حتى هوى الطينُ
لتبقى حيّةً في الأرضِ
خالدةً فلسطينُ!
(4)
نموتُ "على الهواءِ" أجل! ونُقتلْ
ويجري من دَمٍ في الأرضِ جدولْ
وتُهدمُ فوق رؤوسنا بيوتٌ
ويُطفأُ ضوءُ أعيننا وتُسملْ
وتبكي طفلةٌ ويصيحُ طفلٌ
بلا صوتٍ لأنّ الصوتَ أجفلْ
لهولٍ قد رآهُ فلا دموعٌ
تسيلُ بعينه إن كنتَ تسألْ
وثمةَ رجفةٌ هزّته.. ماذا؟
أجبني! حين تبصره ستفعلْ؟
ولكنّا هنا باقون حتى
نموتَ فليس من أحدٍ سيرحلْ
ومهما قتّلوا منا فعمّا
قليلٍ سوف نولدُ.. سوف تحبلْ
بِنَا رغم القنابلِ أمهاتٌ
حكايتهنّ آياتٌ تُرتلْ
كذا شاءَ الإلهُ كذا سنبقى
لنُتلى مثل قرآنٍ مُنزّلْ
فقل للقاتلين لنا هلموا
إلينا فالمبادئُ ليس تُقتلْ.
(5)
هل تعرفُ معنى أن تُقصفَ حتى الموتْ؟
هل تعرف معنى أن يتهاوى فوقك
سقفٌ حتى تُسحقَ مثل فراشة حقلٍ هشّةْ؟
هل تعرف معنى الوحشةْ
مدفونًا في الليل المعتمِ منطفئ العينينْ
لا تعرف إن كنت ستخرج حيًّا
أو ميْتًا من فكِّ الإسمنتْ؟
هل تعرف معنى أن تحفرَ بيديك العاريتينْ
كي تُخرجَ طفلك مَيْتًا من أنقاضِ البيتْ؟
هل تعرف معنى أن تحملَ في كفيك رضيعاً
هُشّمَ منه الرأسْ؟
هل تعرف معنى أن يهوي يأسك مثل الفأسْ
كي يقطعَ أغصانك غصناً غصناً؟
هل تعرف معنى أن يتفطّرَ قلبك
أن تتمزّقَ روحك حزناً؟
هل تعرف معنى أن تبكي من غير دموعْ؟
هل تعرف معنى ألا تجدَ الماءَ وأن ينهككَ الجوعْ؟
هل تعرف معنى أن تبحث أمٌّ عن طفلتها
بين مئات القتلى
هل تعرف معنى ألا يصبحَ طفلٌ طفلا
بل هدفًا مشروعًا للنفّاذاتْ؟
هل تعرف معنى أن يبحث طفلٌ عن والده
ما بين الأمواتْ؟
هل تعرف معنى أن تحمل أشلاءَ بنيك القتلى
في كيس نفاياتْ؟
هل تعرف أمْ أن ضميرك قد ماتْ؟
هل تعرف معنى ألا تجدَ المأوى
هل تعرف معنى ألا تقوى
أن تنظرَ في عينَي طفلٍ ظمآنْ؟
هل تعرف معنى أن تمتدّ ظلالُ الموتِ بكل مكانْ؟
هل تعرف معنى أن تبحث عن ماءٍ تشربه
ورغيف تأكله في وطنٍ جائعْ؟
هل تعرف معنى ألا تأمن أن تمشي في الحارةِ
في البيّارةِ في الشارعْ؟
هل تعرف معنى أن تفقدَ في بضع ثوانٍ
أغلى النَاسِ عليكْ؟
هل تعرف معنى أن تبحثَ في غابةِ إسمنتٍ
يتراكمُ عن ناجينْ؟
هل تعرف معنى ألا يبقى شيءٌ في كفيكْ
تفعلُهُ إلا أن تنتظرَ الموتْ؟
هل تعرف معنى أن تصرخَ موجوعًا
حتى ينقطعَ الصوتْ:
يا ربَّ المقهورينَ وربَّ المسحوقينَ وربَّ المرضى،
خذ منّا حتى ترضى!
خذ منا حتى نصعد نحوك في أعلى عليينْ
وأعدنا ثانيةً للأرضِ على هيئةِ مطرٍ
يهطلُ في أرضِ فلسطينْ!
وابعثنا خلقًا آخرَ فيها
في هيئة شتلة زيتونٍ أو شتلة تينْ
يا ربُّ فإن حياةً واحدةً ليست تكفيها!
(6)
من دونما غيمٍ ولا مطرِ
نبتتْ يدي في غابةِ الحجرِ
لتظلَّ فوق الأرضِ شاهدةً
للموتِ.. ما أبقى ولم يَذَرِ
حدّقْ بقلبكَ لا بعينكِ للشعبِ
الذي ما زالِ في خطرِ!
واسألْ: وماذا بعدُ..؟ هل بَشَرًا
ما زلتَ أم كذّبتَ بالبَشَرِ!
ستظلُّ عينُ يدي تراكَ وإنْ
ماتتْ وإنْ كُفِّنتُ بالحجرِ
ستظلُّ تسمعني وتبصرني
إن كنتَ ذا سمعٍ وذا بصرِ
فاهنأ بعيشٍ لن تُسرَّ بهِ
ودَعِ الشهادةَ.. إنها قدري!
(7)
هل يسقط الشهداءُ؟ لا! بل يصعدونْ
ويهللون لربهم ويكبّرونْ
هم وحدهم فازوا بجنته التي
وعدوا وحُقَّ لمثلهم ما يوعدونْ
هم وحدهم فازوا بما فعلوا وما
تركوا وراءهمُ ونحنُ الخاسرونْ
تركوا الحياةَ بقضّها وقضيضها
وسعوا إليه كأنهم يتسابقونْ
لم يسألوا كيف انتهت أجسادهم
في الأرض صاروا يبصرون بلا عيونْ
صعدوا وما التفتوا ففي أرواحهم
شوقٌ نسوا من بعده هولَ المنونْ
هم وحدهم من سوف يُرفعُ رأسهم
فخرًا بما فعلوا بساعةِ يُبعثونْ.
(8)
لماذا أيها الشعبُ الفلسطينيُّ
لستَ تموتُ بالجملةْ؟
لماذا ما تزال تموت بالتقسيطْ
لماذا أيها الشعبُ الفلسطينيُّ
لستَ تموتُ كي ترتاحْ
لماذا أيها المولودُ للأحزان والآلام والأتراحْ
لماذا أيها المنذورُ للتهجيرْ
لماذا لم يزل في جيبك المفتاحْ
لبيتٍ عاشَ جدُّك فيهْ
لماذا لم تزل كفاك ممسكتينِ
بالأملِ الذي يا طالما خذلكْ؟
لماذا لست تتبعُ طائعًا أجلكْ؟
ومن أغراك بالحريةِ الحمراء والتحريرْ
وحلم إقامةِ الدولة؟
لماذا لست ترفع رايةً بيضاءْ؟
لماذا يركضُ الشهداءُ في شوقٍ إلى الشهداءْ؟
لماذا أيها الشعبُ الخرافيُّ الذي ما زالْ
برغم القهر والتنكيل والتقتيل والأهوالْ
يُبعثُ من رمادِ الموتِ كالعنقاءْ
ليكملَ بعدها الجولةْ؟
(9)
يا أهل غزةَ لا نجاةَ لكم بها
فتسابقوا صوبَ المنيةِ باسمينْ
وامضوا إلى دارٍ أعدَّ نعيمَها
لتكونَ مأواكم إلهُ العالمينْ
لم تُكسروا.. لم ترضخوا.. لم تُهزموا
أبدًا، فحبلُ صمودكم حبلٌ متينْ
كنتم منارًا للإباءِ ومَضْرِبًا
للصبرِ.. لم تستبدلوا دنيًا بدينْ
فزتم ونحن الخاسرون! فأقبلوا
نحو المنيةِ دارَ قومٍ مؤمنينْ
بالله.. بالأرضِ التي هي أرضكم
رغم الطغاةِ ورغم كيدِ المرجفينْ
ستعودُ يومًا ما ويخرجُ كلُّ من
عاثوا بها قتلًا بخزيٍ صاغرينْ
ستعودُ غزةُ.. سوف ينبتُ أهلها
فيها وندخلُها بشوقٍ آمنينْ.
(10)
- متى تنتهي الحربُ؟
- عما قريبْ.
عندما ترتوي الأرضُ من زاكياتِ الدماءْ.
- متى يذهبُ الشهداءُ إلى النومِ؟
- لا يذهبُ الشهداءُ إلى النوم بل يخرجونْ
من شهادتهم ليكونوا شهودًا علينا
حينما أمطرتهم برشقِ القنابلِ والقاذفاتِ المنونْ
حينما استصرخونا وما وجدوا من مجيبْ!
- متى تنتهي الحربُ؟
- لن تنتهي الحربُ إلا لتبدأَ
حتى يعودَ الحبيبُ لحضن الحبيبْ
حينما يصعدانِ معًا للسماءْ.
- متى تبدأ الحربُ؟
- لم تبدأ الحربُ بعدْ
حسبَ توقيتنا، لا لشيءٍ سوى أننا ميتونْ!
والشهيدُ هو الحيُّ ما بيننا للأبدْ!
بطاقة
شاعر ومترجم سعودي ولد عام 1970 في مدينة الهفوف بالأحساء. حاصل على إجازة في الأدب الإنكليزي. من مؤلفاته الشعرية: "لي ما أشاء" (2018)،"عشاء وحيد لروحي الوحيدة" (2020)، و"موجة سوداء في بحر أبيض" (2020)، "لا تترك الليل وحده" (2022). من ترجماته: "خزانة الشعر السنسكريتي" (2012) "عسل الغياب" قصائد مختارة لمارك ستراند (2017)، "أخبار الأيام" لبوب ديلان، "مثل آدم في جنته" لماري أوليفر (2021).